أفكار وآراء

المهاجرون.. ضحايا الانقسام السياسي في أوروبا

07 يوليو 2018
07 يوليو 2018

د. عبد العاطي محمد -

إذا كانت قمة بروكسل الأوروبية قد نجحت في الحفاظ على وحدتها بالتوصل إلى بعض الحلول الوسط لملف المهاجرين، فإنها من الآن فصاعدا فتحت أبوابا جديدة للخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي حول هذا الملف، سواء فيما يتعلق بمن يتمكنون من الوصول إلى دول الاتحاد من غير الطرق النظامية والمشروعة، أو من لا يتوقفون عن تكرار نفس المحاولة، برغم كل ما يتعرضون له من مخاطر، حتى أن كثيرا منهم يلقى حتفه في مياه البحر المتوسط.

بفضل قرارات القمة التي تضمنت خطوات متشددة لإغلاق أبواب أوروبا في وجه المهاجرين، تمكنت المستشارة الألمانية ميركل من الحفاظ مؤقتا على حكومتها الائتلافية بعد أن هدد حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، شريكها في الائتلاف، بإغلاق ولاية بافاريا أمام المهاجرين إن لم ترضخ لمطالبه المتشددة في ملف المهاجرين. وكان انسحاب الحزب سيؤدى بالطبع إلى انهيار الحكومة. كما شعرت إيطاليا بقدر من الطمأنينة بعد هذه القرارات، وكانت حكومتها الشعبوية الجديدة قد أعلنت التمرد على ما تم اتخاذه من جانب الاتحاد الأوروبي من قبل بخصوص توزيع حصص استقبال المهاجرين، وكذلك استيائها مما اعتبرته تخاذلا من بقية الدول في تضامنها معها لوقف تدفق الهجرة غير الشرعية. وهدأت موجة الغضب التي أثارتها بعض دول الاتحاد من أوروبا الشرقية كالمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا من استمرار تدفق الهجرة غير الشرعية. ومعلوم أن هذه الدول اتخذت موقف الرفض لاستقبال اللاجئين عبر البوابات التركية قبل نحو عامين وكثيرا ما أكد مسؤولوها بأن بلادهم لا تريد أن تكون بلادا للمهاجرين. وقد هددت المجر بالانسحاب من القمة إن لم تتخذ إجراءات بالغة التشدد تجاه تدفق اللاجئين والمهاجرين. ومعلوم أيضا أن دول الاتحاد كانت تتفاوض فيما بينها طوال العامين الماضيين لتجاوز الخلافات حول التعامل في هذا الملف، ما بين من يرحب ويفضل تقديم الحوافز، أو تطبيق القواعد التي ينص عليها القانون الدولي بخصوص المهاجرين، وينحاز لقيم أوروبا في الدفاع عن حق اللجوء السياسي والكرامة الإنسانية، وبين من يرفضون الأجانب أيا كانوا ومهما كانت الأسباب ويرفعون شعارات العداء لهم تحت دعوى الحفاظ على الهوية الوطنية ورفاهية شعوبهم لا أن يشاركهم من يضطرون للجوء أو الهجرة في ذلك.

وخلال تلك الفترة انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مما عزز المشاعر المتصاعدة لدى بعض شعوب القارة العجوز بالانغلاق على الذات، هذا بجانب تصاعد ظاهرة القوميات منذ تفكك الاتحاد السوفيتي. وجاءت أحداث ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وفصلها عن أوكرانيا لتزيد قوة هذه الظاهرة بين الشعوب الأوروبية. وكانت هذه التطورات مؤشرا على أن المستقبل السياسي لأنظمة الحكم الأوروبية يتجه لصالح اليمين المتطرف أو الشعبويين الذي لا يعطى أهمية للقواعد والاتفاقات ولا للمؤسسات الدولية، ويغزي نزعة التعصب الوطني إلى حد كبير مستندا إلى أنه الأكثر حرصا على حماية مصالح الشعب، والأكثر تعبيرا عن الانتماءات للدين أو اللغة أو العرق أو الهوية الوطنية عموما.

الغريب والملفت للغاية أن مسألة اللجوء كانت قد خفت حدتها إلى حد كبير في الفترة الأخيرة، فلم تكن تشكل أزمة لكى تهيمن على اهتمامات القمة الأوروبية الأخيرة بينما هناك قضايا أكثر أهمية تتعلق بالأوضاع الاقتصادية والأمنية، حيث وصل إلى أوروبا نحو 32 ألف شخص فقط حتى يونيو من هذا العام، وهو نصف العدد المسجل في عام 2017، وبينما وصل العدد ذروته عام 2015 بسبب الأزمة السورية تحديدا وكان نحو المليون لاجئ، أكدت تقارير الأمم المتحدة أن العدد انخفض هذا العام بنسبة 95 %. وبالمقابل فإن أعداد الضحايا من الهجرة غير الشرعية (الموت غرقا في مياه البحر المتوسط) استمرت في التزايد ليصل عدد من لقوا حتفهم على مدى عام مضى نحو ألف شخص. وإذا كان من طرف مسؤول عن تزايد أعداد الضحايا، فإن أجهزة المراقبة الأوروبية ذاتها، التي كانت لا تلقي بالا بمنع محاولات الوصول إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، بما يعزز الشكوك في أنها كانت تتعمد ذلك لكى تجعل قضية الهجرة ضاغطة بقوة على القيادات الأوروبية لإحراجها أمام شعوبها والعالم مما يدفعها لاتخاذ تحركات متشددة لوقف الظاهرة.

وبما أن التراجع في تأثير الظاهرة على أوروبا كان واضحا، وذلك فيما يتعلق بمن يصلون إلى دول الاتحاد فعلا، فإن الاهتمام بها إلى حد التراجع عن قرارات سابقة إنسانية ومتعاطفة مع اللاجئين والمهاجرين واتخاذ قرارات متشددة بدلا منها، لا يمكن فهمه إلا بكونه بفعل صعود اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في عدة دول أوروبية مؤثرة في مسار هذه الظاهرة، أي أنه لدواع سياسية داخلية أكثر من كونه ظاهرة حقيقية تهدد حياة ومستوى معيشة الشعوب الأوروبية. ولذلك فإنه للحفاظ على الحكومات القائمة من الانهيار، ولتهدئة التيارات الشعبوية ولترضية دول أوروبا الشرقية تم اتخاذ القرارات التي صدرت عن قمة بروكسل الأخيرة.

إطفاء الحرائق السياسية في الاتحاد الأوروبي تحقق بالفعل، ولكنه نجاح مؤقت، والمشكلات التي ستترتب على هذه القرارات ستفتح أبوابا من الجدل والخلافات ليس بين دول الاتحاد (مما يهدد وحدتها مجددا) فحسب، ولكن أيضا بينها وبين الدول التي تأتى منها الهجرات غير الشرعية. ويمكن القول إن القرارات التي اتخذتها القمة بعضها يتعلق بما يتعين على الدول الأوروبية القيام به، والبعض الآخر يتعلق بالدول غير الأوروبية.

فيما يتعلق بأوروبا تقرر إنشاء ما يسمى بمراكز الاستقبال الطوعية، وهى تختص بمن يصلوا فعلا من اللاجئين والمهاجرين من غير الطرق الشرعية، أي أولئك الذين يتم إنقاذهم بشكل أو بآخر. ويخضع هؤلاء للتدقيق الأمني، ويتم فصل المهاجرين غير الشرعيين وإعادتهم إلى بلادهم، بينما الآخرون الذي يحتاجون إلى حماية دولية فسيتم دعمهم ولكن ذلك يتم بشكل طوعي، بمعنى أنه ليس شرطا أن تقبل بعض الدول بهذه الآلية (مراكز الاستقبال) وإنما يخضع الأمر لموافقتها حسبما تراه. وجاء هذا القرار بديلا لما كان متبعا في الماضي وهو العمل بنظام الحصص، بمعنى توزيع المهاجرين غير الشرعيين على دول الاتحاد بحصص معينة. وتم النظر لهذا القرار على أنه حل وسط يرضي دول شرق أوروبا المتشددة في الرفض والدول التي ترغب في استقبال هؤلاء المهاجرين. ولكن مسألة الطوعية هذه هي المشكلة لأنها فضفاضة بل وغامضة لدرجة أنها تبدو فكرة غير قابلة للتطبيق، حيث لا توضح بالطبع المعايير التي بمقتضاها النظر لمهاجر معين على أنه صاحب حق للجوء السياسي أو الحماية الدولية، وذلك الذي يعتبر مهاجرا غير شرعي. ومن جهة أخرى أشارت القرارات إلى أن تحركات طالبي اللجوء بين الدول الأوروبية قد يضطرون بنظام اللجوء الأوروبي وبتأشيرة شينجن، ولذلك على الدول الأعضاء اتخاذ كافة الإجراءات الداخلية والإدارية لوقف هذه التحركات والتعاون فيما بينها بهذا الصدد، كما أشارت القرارات إلى أن هناك حاجة لحوارات ومفاوضات أكثر لحدوث توافق حول اتفاقية دبلن بالموازنة بين المسؤولية والتضامن. وكل ذلك يعنى أن الدول الأعضاء ستختلف مع بعضها البعض خصوصا فيما يتعلق بالتضامن الذي كان ولا يزال مصدرا لتوتر العلاقات في هذا الملف. وعندما تتحدث القرارات عن ضرورة سيطرة الدول الأعضاء على الحدود الخارجية للحد من الهجرة غير الشرعية، فهذا يعنى أن هناك عجزا وتقصيرا في هذا الجانب وليس من الواضح كيفية إمكان التغلب عليه مستقبلا، والأرجح أن يثير اتهامات متبادلة بالتقصير. وفيما يتعلق بالدول غير الأوروبية فالمشكلات المتوقعة أكثر تعقيدا في ضوء ما تم اتخاذه من قرارات. وهنا يتعلق الأمر بالمهاجرين الذين لا يتمكنون من الوصول إلى أوروبا وهي لا ترغب بالطبع في استقبالهم. فالقرارات تشير إلى إنشاء ما يسمى بمراكز الإنزال أو الإيواء المؤقتة، ويقصد بها إقامة مناطق في موانئ الدول التي تأتى منها الهجرة غير الشرعية يتم فيها احتجاز من يحاولون ركوب البحر ومن تتم إعادتهم من البحر قبل الوصول إلى أوروبا، ويتولى الاتحاد مساعدة هذه الدول على إقامة هذه المراكز. هنا قد تسمح هذه الآلية بالتدخل العسكري، برضا الدولة مصدر الهجرة غير الشرعية أو بغير رضاها إن استلزم الأمر!، ومن جهة أخرى تمثل عبئا ثقيلا على هذه الدول من الناحية العملية لعدم توافر الإمكانيات مهما كان الدعم الأوروبي، والأرجح أن الرفض هو مصير هذه الفكرة خوفا من تداعياتها الأمنية، هذا فضلا عن أن هناك اختلاف في النظر للتعامل مع المهاجرين، حيث تتعامل بعض الدول مع الموضوع بطريق الدمج في المجتمع لا العزل كما تشير الفكرة الأوروبية. وكما تشير القرارات في هذا الصدد إلى ضرورة تدخل المنظمة الدولية للهجرة وكذلك مفوضية الأمم المتحدة للاجئين لإزالة ما تسميه القمة الحوافز التي تشجع المهاجرين على الخوض برحلات مجازفة. وليس من المتوقع أن كليهما يستطيع القيام بمهمة كهذه، وإلا لكانا قد قاما بها حتى الآن. كما أشارت القرارات إلى ضرورة بذل جهود إضافية مع تركيا لتنفيذ اتفاقها مع الاتحاد بالكامل، وبما أن العلاقات متوترة بين الجانبين، فإنه يصعب التعويل على هذا الأمر. هكذا نجح اليمين الصاعد في أوروبا في استغلال مسألة الهجرة ليواصل تقدمه في توجيه السياسة الأوروبية، في الوقت الذي اتخذت فيه دول الاتحاد قرارات لن تتمكن من تنفيذها وتثير لها مشكلات لم تكن في حاجة إليها.