1379825
1379825
إشراقات

«شـــوال» .. وقائــع وأحـداث مفصــليـة فــــي تاريـخ الأمة الإسلامـية .. «2-2»

05 يوليو 2018
05 يوليو 2018

غزوة الخندق .. ومعادلة القانون التكويني -

هلال بن علي اللواتي -

«الذي ينظر إلى القرآن الكريم متدبرا، ومتفحصا في آياته وسوره بدقة علمية سيجد أن هناك أمورا فوق التصور العادي للبشر، وفوق مستوى معادلاتهم الوضعية التي يضعونها بناء على أوهامهم التي تقودهم إلى الانتصار بمخيلتهم، ولكن عندما يضعون أقدامهم على أرض الواقع فإنهم يدركون أن هناك معادلات غير المعادلات التي تعودوا عليها في ميادين التدريبات أو المناورات العسكرية، وهي التي تسير الحرب وليس هم».

وهي ثالث معركة يخوضها المسلمون في تاريخهم الإسلامي، وهي معركة مثل أختيها بدر وأحد فرضت على المسلمين، ولم يحدثنا التاريخ أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين ابتدأ الحرب على أحد، وأبت القوى العظمى آنذاك «قريش» سوى أن تفرض سيطرتها على كل المنطقة، وتستحكم قبضها على رحلاتها الاقتصادية، ولقد أرغم أنفها ثلة من المؤمنين الذين آمنوا بالله تعالى حق الإيمان، وهم الذين كان على رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، فشمخت بأنفها واستعظمت الأمر واستكبرت الحال، فأبت إلا أن ترغم أنف المسلمين، وتدكهم في دار هجرتهم، ويظهر من خلال الأحداث أن قريشا قد عقدت مجموعة من الاجتماعات مع اليهود الذين كانوا يقطنون في المدينة، وتحالفا على هدفهم المشخص، واتفقت كلمتهم مؤامرة على النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى المسلمين للقضاء عليهم أجمعين، وبالتالي لا تقوم للإسلام قائمة، وقد بلغت قوتهم التي شعر بها بعض المسلمين على درجة نقلها القرآن الكريم بوصف عجيب، فقال تعالى: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا).

وتحرك مع هاتين الجبهتين الطابور الخامس الذي وصفه القرآن الكريم بــ«المنافقين»، وقد قال الإمام الشافعي في كتاب الأم 4: 174: «غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغزا معه بعض من يعرف نفاقه فانخذل يوم أحد عنه بثلاثمائة، ثم شهدوا معه يوم الخندق، فتكلموا بما حكى الله عز وجل من قولهم «وما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا» ...»، وتحرك الإعلام المناوئ في داخل أروقة المسلمين في المدينة يريد تثبيط هممهم، وتخويفهم من القوى العظمى التي كونت قوى التحالف الثلاثي العظيم قريش واليهود والمنافقين، فهل نجح هذا التحالف الثلاثي على دولة الإسلام أم لا؟، إن التاريخ يخبرنا أنه لم ينجح هذا التحالف الثلاثي، فهنا سوف ينبري السؤال المهم وهو: لماذا؟

إن الجواب في الحقيقية يفوق المعادلات التي يضعها الناس في عالم العسكرية والخطط الاستراتيجية والأخذ بوسائل الحرب من السلاح والعدة والعدد والاعتماد على عناصر شلل العدو، أو على عنصر هزيمة السبق التي تعتمد على الحرب النفسية والدعاية والإعلام، لأنها في الحقيقة تعتمد بكل بساطة على «معادلة القانون التكويني»، وهذا ما لم يفهمه فرعون ولا هامان ولا قارون ولا نمرود، ولم يفهمه بنو إسرائيل على مر العصور، وكذا لم تفهمه قريش، ويظهر اليوم أن هناك من هو مثل أولئك لا يريد أن يفهم منطق القانون التكويني ومنطق قوته، لأنهم غطوا أعينهم بألعابهم التي سموها أسلحة الدمار الشامل، والأسلحة النووية، وظنوا أنهم مانعتهم غطاؤهم العسكري، وحصونهم من الآليات الفتاكة، والقرآن يصيح في الأمم «فاعتبروا» فأنى لهم الاعتبار!، إن من إحدى مظاهر المنطق التكويني هو قوله تعالى: (جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا)، وينقل لنا الكتاب العزيز هذا الوصف أيضاً: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، فهل لهذه الجنود معادلات تدرس في الكليات العسكرية أم لا؟، وهل تدرس أيضاً طرق استدعاء هذه الكتائب الإلهية لنصر جند أهل الأرض؟، ثم الأمر الآخر: كيف أرسلت الريح؟!، وهل يمكن أن تصبح الريح جنداً لصالح الإنسان؟!، وكيف؟!، وهناك أسئلة كثيرة تطرح في البين، إلا أن الذي ينظر إلى القرآن الكريم متدبراً، ومتفحصاً في آياته وسوره بدقة علمية سيجد أن هناك أموراً فوق التصور العادي للبشر، وفوق مستوى معادلاتهم الوضعية التي يضعونها بناء على أوهامهم التي تقودهم إلى الانتصار بمخيلتهم، ولكن عندما يضعون أقدامهم على أرض الواقع فإنهم يدركون أن هناك معادلات غير المعادلات التي تعودوا عليها في ميادين التدريبات أو المناورات العسكرية، وهي التي تسير الحرب وليس هم!!.

إن البشرية ما تزال جاهلة لهذه القوانين التكوينية، وإذا هي علمتها فإنها تكابر عن الخضوع لها، وتعاندها لما فيها من طبع «أنا ربكم الأعلى»، وتظهر هذه الطبيعة في كثير من مواقف الحياة لها، في الخلافات الاجتماعية والأسرية والاقتصادية وغيرها من مظاهر الحياة التي يعيشها الإنسان إلى أن تتجلى في أظهر صورها وهي الحرب والمعارك، لقد أعد التحالف الثلاثي على النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين خطة عسكرية وأمنية وسياسية وكذا إعلامية ما جعله في اطمئنان أن نهاية هذا النبي ونهاية دينه ستكون في هذه المعركة الحاسمة، ولكن (وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ)، (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)، فتحركت القوى العظمى وتحرك النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين على قلة العدد وخذلان الناصر ولكن مع فارق جوهري بينه وبين قوى التحالف الغاشم الظالم وهو: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ)، فليس هو من كثرة العدد، ولا العتاد، ولا من الاستعانة بالقوى العظمى كقريش، ولا بأحلافها التي تجمعت حول المدينة المنورة التي بلغ عددها على بعض الأقوال أكثر من 3 أضعاف عدد المسلمين المخلصين الذين وقفوا بشجاعة أمام القوة العظمى وحليفاتها، بل النصر هو من عند الله تعالى، والمعادلة الإلهية التي لا تعرف المحاباة لمن يقوم بالعناية ببيته المبارك هو الكعبة المشرفة، فإن القانون الإلهي بين بصراحة وأعلنها مدوية في قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، لهذا رجحت كفة الإيمان على كفة قريش المعمرة لبيت الله تعالى التي تقوم بسقاية الحاج والعناية بشؤونهم، وجاء نصر الله تعالى في صالح المؤمنين المرابطين على الخندق.

إن أهم ما يميز المؤمن عن غيره -ويظهر هذا التميز في أصعب الحالات الاجتماعية- هو: «المعرفة الحقيقية الواقعية» للعالم ولهذا الوجود، وهي تنتج له سلوكاً بناء على هذه المعرفة اليقينية الثابتة، وهي تستمد قوتها من روح «التوحيد» الصافي الزلال الذي لا يعرف التلون ولا الرائحة، فهو كالماء، فمن أصبح حاله هكذا فعندها تتحقق في حقه مجموعة من النصوص التي منها: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ)، ومنها: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)، أجل إن الغرور العسكري والمالي قد تمكن من نفس قريش واليهود ومن والاهما فوقعوا في المحذور الذي غفلوا عنه، وهو الهزيمة المنكرة، وهذا ما أكده القرآن الكريم في حق أمثال هؤلاء الجهلة في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ)، ولعل أفضل رسالة توجهت إلى قريش واليهود وأحلافهما كانت قوله تعالى: (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا)، (قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)، وعلى المؤمنين ألا ييأسوا من نصر الله تعالى، فإنما هي أيام قلائل، يختبر الله تبارك وتعالى فيها العباد، ثم ينزل القانون التكويني بقوته؛ لأنه لم يبن إلا على نصر «التوحيد والموحدين»، ولتكن هذه الآية المباركة نصب أعينهم، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، وهذا لا يعني ألا يأخذ المرء بالاستعداد بما في الإمكان، وبعد هذا عليه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

 

ركائز النصر -

د.محمد الزيني - أستاذ الفلسفة الإسلامية - كلية العلوم الشرعية - مسقط -

بعد ظلام دامس وتخبط البشرية في دياجير الشرك وحيرتها بين تعدد المذاهب الوثنية والفلسفية وبحثها في تلمس الطريق المستقيم، لاسيما بعد طول المدة الزمنية بعد وفاة النبي عيسى بن مريم، والعالم يموج بالوثنية والشرك وتعدد المذاهب النصرانية التي تؤله المسيح وأمه أو تدعي أنه ابن الله، نقول بعد هذا الظلام أشرقت الأرض بأنوار محمد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالرسالة الخالدة لهداية البشرية جمعاء رسالة المحبة والأخوة والسلام، وأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته في قريش بداية، وكما هي عادة الإنسان الظلوم الجهول، هناك من أعمل عقله وفكر وتأمل وتعقل مواكب الرسل الذين أعلنوا كلمة التوحيد فآمن، وهناك من دفعته نفخة الكبرياء والغطرسة وحب الرياسة وعصبية القبيلة فرفض الرسالة، وأظلم الحقد والحسد قلبه وعقله، فكفر ونهض يحارب النبي العربي صلى الله عليه وسلم.

ظل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو عشيرته وقومه وصناديد قريش بالكلمة الطيبة والحوار الهادئ والموعظة الحسنة ولا يطلب منهم إلا «إعلان كلمة لا إله إلا الله محمدا رسول الله» والعمل بدلالتها، ونبذ عبادة الأوثان والأصنام ويضمن لهم حياة الخلود في الجنة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمل في استجابة قومه لهم لما لهم من بعد النظر وسعة الأفق والحكمة في القول والسلوك والخبرة الواسعة بتجارب الحياة التي حصلوها من رحلاتهم شمالا إلى الشام وجنوبا إلى اليمن.

إلا أن شيوخ قريش وقفوا سدا منيعا في مواجهة الدعوة الوليدة وأغلقوا قلوبهم أمام آيات القرآن التي كانت تهز وجدانهم وتستلب عقولهم وتتسرب إلى ضمائرهم وتكشف أسرارهم، ولكن نزعة الكبرياء وحب الرياسة وعصبية القبيلة وقفت سدا منيعا أمام إيمانهم. وأدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أن دعوته في مكة سدت أمامها الأبواب، وأغلقت دونها المنافذ، ففكر طويلا وقلب الأمر على وجوهه، وأشرقت الأنوار في قلبه وأمده الله بمدد من المعرفة الكاشفة والإلهام الباطني، وكانت الهجرة إلى المدينة، فكانت فتحا عظيما وعهدا جديدا ونصرا مبينا للدعوة وانطلاقا إلى الآفاق البعيدة.

وفي ضوء ذلك تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم بهمة ونشاط لنشر دعوته بين القبائل، ولم يلبث أن جاءته المتاعب من مشركي قريش الذين تحرشوا به، فدخل معهم ومع القبائل المجاورة سلسلة من المعارك الدامية، ولم ير بدا من لقائهم في «غزوة بدر»، وانتصر عليهم انتصارا ساحقا وأطاح برؤوس الكفر، ثم أرادت قريش أن تنتقم من هزيمتها وتسترد هيبتها ومكانتها فكانت «غزوة أحد» صدمة نفسية ودرسا إيمانيا للمسلمين في ضرورة طاعة القائد والامتثال لأوامره التي هي نابعة من الوحي الإلهي وليست اجتهادا شخصيا، ولما تكشف له غدر اليهود حينما عزموا على اغتياله بإلقاء حجر فوق رأسه ونكثهم للعهود قام بإجلاء بني النضير اتقاء لشرهم وتطهيرا لأطراف المدينة من دنسهم.

ولما توالت الأخبار عن تجمع بعض القبائل شمال الجزيرة حول دومة الجندل تقطع الطريق على القوافل وتنهب ممتلكاتهم وتنوي الهجوم على المسلمين في المدينة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، وأنزل بهم هزيمة ساحقة وشرد بهم وكان انتصارا حافلا توجه بانتصار آخر، على بني المصطلق الذين حشدوا القبائل كي يباغتوا المسلمين، ثم شاءت الأقدار أن يدخل أفراد القبيلة كافة في الإسلام بعد زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث رئيس قبيلة بني المصطلق.

وفي خضم هذه الأفراح العارمة والانتصارات المتوالية واتساع رقعة الإسلام عكف المنافقون على طعن الرسول صلى الله عليه وسلم في شرفه بإذاعة حديث الإفك الذي بلبل خواطر الرسول صلى الله عليه وسلم وأقض مضجعه وأسهد يومه وليله وأوقعه في ألم نفسي عميق.

ومع كل هذا الكفاح لم تهدأ الأحوال؛ فالمنافقون في المدينة يقومون بحرب نفسية عنيفة على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واليهود في شمال المدينة يتربصون بالمسلمين ورسوله، ومشركو قريش لم تهدأ عداوتهم وزاد من حقدهم الانتصارات التي حققها محمد وأصحابه، فتعاونت هذه الأطراف الثلاثة؛ وكانوا يمثلون القوى الضاربة في الجزيرة العربية، حيث اتحدت كلمتهم على مباغتة الرسول صلى الله عليه وسلم والهجوم عليه في عقر داره، وهذا ينقلنا إلى الحديث عن غزوة الأحزاب التي اشتهرت بمعركة الخندق.

ولم تهدأ مكائد اليهود للكيد للإسلام والمسلمين مع أنهم من أهل الكتاب المفترض عقلا وفهما ودينا أنهم أقرب إلى المسلمين من مشركي العرب، ولكن حقدهم الدفين دفعهم إلى التفكير العميق والوصول إلى نتيجة مؤكدة باستحالة انتصار فريق واحد بمفرده على المسلمين وأن الخطة المثلى في جمع شمل مشركي قريش وتجميع القبائل العربية والهجوم على المسلمين وحصارهم في المدينة وتضييق الخناق عليهم واستئصال شأفتهم، ومن المؤسف أن حُيي بن أخطب قام بهذا الدور التآمري فذهب إلى قريش واجتمع مع أبي سفيان واستنهض همة قريش للانتقام من المسلمين، وصرح لهم بأن «دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق» وأنهم سيقفون بجانبهم، ويتوسلون بكل الوسائل لهزيمة المسلمين والتحالف مع بعض القبائل العربية ومنها قبيلة غطفان وقبائل أخرى، وبهذا التجمع المشترك تستطيع الأحزاب المناوئة للإسلام الانتصار على المسلمين.

وزحفت قريش بقيادة أبي سفيان وصناديد قريش ورجالاتها بجيشها العرمرم وكل من له ثأر سابق مع المسلمين، ومعظم القبائل الكارهة للإسلام، وحاصروا المدينة المقر الرسمي لدولة الإسلام، مصممين على وأد دعوته وأن تكون هذه حربا حاسمة تنهي وجود محمد صلى الله عليه وسلم تماما من الوجود.

وأيقن الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطر الجديد المحدق به وبدعوته المباركة، فعقد مجلسا استشاريا لكبار صحابته وأولي الرأي وزعماء الأوس والخزرج.

وبعد نقاش حر وحوار مخلص وجدل محمود ارتأى الشباب المتحمس ملاقاة الأحزاب خارج المدينة وتلقينهم درساً قاسيا، إلا أنه برز رأي آخر ابتكر فنا جديدا مبتكرا في الحروب وطرح سلمان الفارسي فكرة حفر الخندق حول المدينة والتحصن داخلها وتقوية أسوارها وسد ثغراتها لإنقاذها من زحف جحافل الأحزاب من كل اتجاه المتعطشة للانتقام والدماء. وكان هذا تكتيكا عسكريا مفاجئا لقوة الأحزاب وفنا جديدا لم يألفه فرسان القبائل إذ يحتاجون فضاء واسعا وصحراء ممتدة للكر والفر والمبارزة وإظهار فروسيتهم ومهارتهم.

وشمر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ساعد الجد والعمل وحفز أصحابه لعملية الحفر وتقدم موكبهم، وبدأ العمل الجاد واستبسل المسلمون وفي مقدمتهم رسولهم يحفر معهم ويعاني معاناتهم ويعيش آلامهم وأحزانهم وآمالهم، ويشد أزرهم ويرفع من معنوياتهم ويجاهد وسط هذا التعب على تنمية الحس الديني في أعماقهم، وتوزيع العمل بينهم بالقسطاس المستقيم، واستنفر فيهم روح الرجولة الصادقة والبطولة الحقيقية فانصهرت نفوسهم واستبسلوا في العمل، وحينما وقفت صخرة أمامهم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم مساعدتهم فأخذ الفأس وضرب الصخرة باسم الله فتطاير شررها وأضاءت ما حولها وقال: الله أكبر الله أكبر وأعلن في أصحابه أنه يرى قصور الحيرة ومدائن كسرى وقصور قيصر وصنعاء، وبشر المسلمين بالنصر القادم لا محالة، وكلما اشتد حصار الأحزاب عليهم زاد المسلمين إيمانا وثقة في نصر الله وهذا ما عبر عنه قوله تعالى (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)(الأحزاب (22)، وتوالت المفاجآت في المعركة حيث برز المنافقون يسخرون من المسلمين ويشيعون الوهن والإشاعات الكاذبة لتوهين عزيمة المسلمين (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا).

وكانت المفاجأة الثانية خيانة قبيلة بنو قريظة الذين انضموا إلى الأحزاب ونقضوا المعاهدة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولما اشتد الحصار حاول بعض فرسان مكة الأشاوس اجتياز الخندق من أضعف ثغراته، ولكن قابلهم علي بن أبي طالب وبارزهم وقتل رئيسهم وهرب الباقون، ولما حاول أحد اليهود عبور الخندق تصدت له صفية بنت عبد المطلب بجرأة وشجاعة وضربته ضربة قاتلة فأردته قتيلا.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبارك جهود جيشه ويرفع معنوياتهم ويثبت أقدامهم ويردد: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم». ولما كانت الحرب تعتمد على التخطيط السليم والمناورة الناجحة والسرية الكاملة حاول الرسول صلى الله عليه وسلم إيقاع الفرقة بين الأعداء وشق صفوفهم وفك عرى وحدتهم من خلال استمالة قبائل غطفان وإغرائهم بالمال والثمار من ناحية، وإرسال نعيم بن مسعود لإيقاع الفرقة بين اليهود وزعماء قريش من ناحية أخرى، وقد نجحت هذه المكيدة.

ثم بدأت المعركة تأخذ مجرى آخر، بسبب اختلاف أهداف كل فريق ودب بينهم النزاع الخفي بعد أن اختلفت مقاصدهم من الحرب؛ ففي حين قصدت غطفان الحصول على المكاسب المادية بالحصول على ثمار مزارع خيبر مدة سنة، كان مقصد قريش الظفر بالرسول صلى الله عليه وسلم وقتله والقضاء على الدعوة الإسلامية ليس هذا فحسب بل واقتلاعها من جذورها وفتح الطريق أمام تجارتها الكاسدة إلى بلاد الشام، أما اليهود المنافقون الغدارون فكانوا يبغون الثأر والانتقام من محمد صلى الله عليه وسلم ولم شمل قبائلهم والعودة إلى حصونهم ومزارعهم في المدينة مرة أخرى. وبعد مرور بضعة أيام في المناورات والمناوشات بين الفريقين وتربص كل فريق بالآخر، ومحاولة فرسان قريش اقتحام الخندق إلا أنها باءت بالإخفاق، ثم سارت الحوادث على غير ما يهوى أنصار الغدر والخيانة؛ فقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغري غطفان بالخروج من المعركة عن طريق العامل المادي واستغلال طمعهم، ثم وقعت بعض وقائع تشي بعدم الثقة بين القرشيين وبني قريظة، ومنه تخاذلهم في مناوشة الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أن هذا يوم السبت فشك القرشيون في نواياهم وغدرهم، ثم طال أمر الحصار وأنهك الطرفان واستبد اليأس بفرسان قريش وأصاب الملل جيشهم من طول الكمون والانتظار وقلة المدد وتشتت الأمر، ثم جاء العون الإلهي في شكل ريح عاصفة وعاصفة متربة وساد الظلام الدامس حتى كان الناس لا يرون بعضهم (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ).

وأيقن أبو سفيان بقرب الهزيمة وتشتت رأي أنصاره، وخيانة بني قريظة، ويأس جيشه الذي كان يود محاربة محمد صلى الله عليه وسلم وجها لوجه، وفي المقابل قوة عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستبسالهم في الدفاع عن المدينة، ولم يجد بدا من إعلان النفير للرحيل وأعلن أنه مرتحل، وأسرعت كل قبيلة تولي وجهتها هربا من العقاب الإلهي وصاعقة السماء، وتركوا بنو قريظة لمصيرهم المجهول في قبضة المسلمين، ولم ينم الرسول صلى الله عليه وسلم ليلته، وحاصرهم وبعد حوار بينهما رضوا بحكم سعد بن معاذ، فحكم أن يقتل الرجال، وتسبى النساء. وكانت هذه المعركة نهاية لوجود بطون اليهود في المدينة. والناظر في وقائع هذه الغزوة وأطرافها وسيرها ونهايتها المأساوية بالنسبة إلى جماعة الأحزاب المتآمرة التي انتهت بانتصار الفضيلة والحق والعدل، ونستطيع أن نستنبط أن قوة إيمان المسلمين وثبات عقيدتهم والتفافهم حول قائدهم صلى الله عليه وسلم وتنفيذ أوامره بدقة وحزم والثقة بنصر الله من خلال التوجه إليه والاستعانة به وحضوره الوجودي في قلوبهم وعقولهم وضمائرهم.

كما أن الأخذ بالأسباب والتخطيط الجيد للمعركة وابتكار أساليب جديدة في الحرب ليس بالعدو عهد بها ولا دراية؛ ومنها حفر الخندق، ورفع الروح المعنوية وشعار النصر أو الشهادة.

كذلك استعمال المكيدة والخديعة للإيقاع بالعدو وبث الفرقة بين صفوفه، ونشر الشائعات لهزيمته نفسيا وتشتيت فكره وهدفه. وأيضا التيقن من كراهية اليهود للإسلام، وهذا ما تجلى في يهود بني النضير ثم بنو قريظة ومن بعدهم يهود خيبر، وقد طردهم الرسول صلى الله عليه وسلم خارج الجزيرة العربية.