مرايا

علبة خرافات

04 يوليو 2018
04 يوليو 2018

أدعى شهنامة من قِبل الجميع، عدا جدتي كانت تسميني «دُمنه»، يعود الاسم لأمها المتوفاة أثناء ولادة جدتي (المشؤومهّ) كما أصبح متعارفا عنها في ذلك الوقت، تضم لي الحب والانتماء بسبب وجه الشبه الذي أجمع عليه كل الأجداد، فكلما أمر من أمامها تضحك ضحكة غرور تعلو «حلطمتها» غير المنتهية، لتتبين بذلك ضحكتها الصفراء عديمة الأسنان، وتدعم تلك الضحكة قائلة: «دُمنه» شبيهتي أنا، وأنا شبيهة أمي الجميلة التي لم أرها قط.

ثم تبدأ البحلقة على هيئتي التي ما أرضتها يوماً، تسحب يدي تمتد حتى أسقط راكعة أمام أقدامها، عيناها جاحظتان مجدداً من الغضب، شعري مموج من الإهمال، وهو ما آثار غضبها، تحيلني للجهة المعاكسة، كي أصبح في قبضتها تحت رحمة أقدامها، تلتف حولي التفافة أفعى بفأر ضعيف، تثبط حركتي بساقيها، أفقد السيطرة وأرضخ للواقع.

تنهدم كل خطط اللعب التي كانت تدور حول رأسي منذ بضع دقائق، تنهدم وساوسُ الشيطان المتعجرف التي لعبت على عقلي منذ برهة وأقنعتني بالتسكع، وتنهدم خطة زيارتي للبيت المهجور المقابل لنا، البيت الذي لطالما كثرت حوله قصص الجن والشياطين، (بيت العجوز ياسّه)، التي اتفق الجميع على مقاطعتها يوم وفاة ابنها الأخير (أسعد) .

فبعد ذلك التسلسل المأساوي في موت أبنائها الخمسة بدون أية أمراضٍ مسبقة، كثرت الثرثرة حولها وبدأت أساطير أهل القرية تقتحم المنازل، تارةً رأوها تطير متمطية ذلك الضبع المخيف، وأخرى زاحفةً في أقرب رصيف للعودة إلى منزلها بعد سهرة السحرة المقضية في كل ليلة سبت في ضاحية نمرون المهجورة، ولكن كلها كانت محض افتراءات.

لاحقاً أدركوا سبب موتهم، وهو مرض (الجذام) المنتشر آنذاك، ولكن تأخر الطب في الوصول إلى القرى والريف أمهلهم الفرصة لاتهامها بالسحر وتقديم أطفالها واحد تلو الآخر كأضحيات للأكل في جلسات السحرة. ولا أنسى حين أطل ذلك الصبح المتسارع فجره، يومها استفقت على صريخ الجارة (أم فاضل) وخروج كل الهاربين من ذلك الصقيع، ليتبين لنا سبب ذاك النحيب الذي تسلل من (مراق الغرف)، وهو وفاة (العجوز ياسّه).

تحضر الجنازة، الكل في ترقب، تبدأ مراسم النفاق الأصغر، بعض العجائز الخبيثات تحمّل في رتل نواحها أفضال (العجوز ياسّه) عليها وأيامها الجميلة معها، وفي الواقع كل ما قيل هراء، لأنها عانت من قطيعةً قاحلة في آخر أيامها بسبب اتهاماتهم الباطلة ولغوهم المرير، إلا أنه لا رجوع. تخرج الجنازة على الأكتاف، يحملنها ناحية (وقبة الشريعة)، الرفصة الأخيرة الخاصة بغسل الأموات، يتراكمن حول (الوقبة) حتى يُستر المكان، تعرى الجثة الهامدة قلباً وقالباً، توارى بالماء.

العفاريت الصغار ينشرون ذعرهم المعتاد ويدعمون ذلك الخوف بقصص السحرة، ويترقبون خروج (طائر السحر الأخضر) من جسدها، حيث كانت تتأرجح في عقولهم الخفيفة إشاعة، وهي أن كل ساحر يدب على الأرض يوجد بروحه (طائرٌ أخضر) محبوس، ويتحرر فور موته وتشييع جنازته لتشهد الأمة كلها أنه كان ساحرا حقاً. ولا أنسى فعلاً حين انتهت المغسلة من عقد طهارة الجثة، حتى صاحت بنت (الجد مسعود): الطير الأخضر فرّ، وانحنت بذلك رقابنا من كثرةِ النظر عالياً لرؤية ذلك الطير الوهمي.

دفنت ( الجدة ياسّه) وبقي بيتها الذي سرعان ما أوصده ( العم منصور ) بالقفول حتى لا يعبث الصغار به، لكنه لم يلتفت أيضا لإيصاد ذلك المراق ونسيه مفتوحا، ومنه أصبح البيت مكان لعبة (الغميضهّ) المحببة لنا والمليئة بالخوف والرعب.

مشط وزيت شعر

تغرز جدتي أنياب ذلك المشط النحاسي على بصيلات شعري لأعود للواقع من تلك الذكريات، ثم تبدأ الحديث: (وهذا المشط أيضا قد توارث)، تحكي لي مجدداً نفس تلك النكبة الحزينة التي توهجت في صدرها: ( أنا لم أر أمي حتى في الأحلام، ماتت في يوم ولادتي كما روت لي عمتي، يوم عصيب، تلتوي قدماها تعسراً، قدومي مؤلم عسير، يذهب جدي إلى بيت (المولدةّ)، يزف لها خبر ولادتي وأن أمي في دوامةِ ألم المخاض.

تتبعه و(حلطمتها) تعلو السكة بسبب مداهمتهِ لنومها، تحلطم: (الصغار المولودن فجراً، لجوجون، لحوحون، وغالباً حمقى، لا يجيدون احترام الوقت). يطيل جدي في الانتظار برهة جلوس أو مشيّ، بعد ما عانى كثيراً من تنمل قدميه كالمعتاد، بسبب مرض السكر الذي داهم دمه وقدميه. الخبر غير سعيد، روح تصل، وتصعد أخرى إلى السماء. فارقت أمي الحياة في يومها.

تروي لي عمتي كيف كان بكاء جدي ساعتها، حتى أنه رفض رؤيتي ونكّرني بالمنكوبة وأخرى المشؤومة، يجهش في البكاء، يأذن لصلاة الفجر وتقترب الكثير من النساء على إثر ذلك النحيب الحاد، وتبدأ الثرثرة: (مسكينة خسرت روحها بجرثومة الولادة المنتشرة)، في ذلك الوقت كانت جميع النساء تعاني من ذعر جرثومة الولادة وعنف التوليد الفاشل المسبب للموت، والذي تمارسه عجائز التوليد آنذاك.

تنتهي جدتي من تضفير شعري أخيراً بعد ذكريات النكبة التي حفظتها بأدق التفاصيل، تلوي ضفيرة شعري الأخيرة، تتقن لفها حتى لا ينتثر شعري أثناء اللعب وتغضب هي مجدداً، انتثاره يؤرقها حقاً. تبدأ حماقاتي بعد الفرج الذي حل من بين أقدام الجدة وذكرياتها الذي بت أحفظها أكثر من كوني (دمنة) شبيهة أمها الجميلة. أنطلق إلى السطو على منزل الجارة (حليمة)، حيث رزقت بمولود كثير الصراخ والجلبة، لا شك أنه من مواليد الفجر أيضاً.

أتوجه إلى أقرب نافذة، كانت حليمة تتوسط الغرفة، وتقابل الجارة (أم محمد)، تمسك يدها تتوسلها في شيء ما، فضول قاتل، أقترب أكثر. كانت تسألها عن السر الذي جعل (محمدا) إمام مسجد وهو لم يتجاوز العشرين بعد، في نفس اللحظة كانت ملامح (أم محمد) شاحبة وكأنها لا تريد أن تبوح بالسر الذي دفنته عشرين سنة، بعد ذلك الإلحاح الشديد تأمرها أن تغلق الباب بإحكام، تذهب وهي تطير من الفرح في أن أحلامها التي رسمتها على ابنها ستتحقق بمجرد ما أن تخبرها (أم محمد) بالسر.

تبحلق يميناً ويسارا، المكان خال من الآذان، تغلق الباب، تقترب منها (أم محمد) تمسك يديها بكل قوة وتعتصرهما، كإشارة إلى أن ما ستقوله مهم وسريٌ للغاية، ثم تبدأ بالحديث: حليمة السر في (الصرار)! تتسع أعين حليمة من العجب، تكمل: الصرار أساس مرجع أي إنسان، أين ما يدفن تندفن الروح، وتنساق حين تكبر إلى نفس المكان. دفت (صرار) محمد على باب المسجد، ولا أنسى ذلك اليوم، كانت الجمعة ووقت انتهاء الصلاة، وقع صرار محمد المتعلق بقطعة لحم صغيرة تنتهي بقطعة بلاستيك زرقاء، بعد كم يوم من ولادته، كان كل تركيزي أن أدفن الصرار بعيداً عن أنظار الجميع، انتظرت، انتهت صلاة الجمعة وخرج الجميع.

بدأت بحفر حفرةٍ أعمق من كل رغباتي، أعمق من خيالي، وأعمق من تصديقي أن حلمي سيتحقق، رميت الصرار فيها وهمست داعية «يا رب الفلق، علق قلبه بالمسجد». دفنته ودفنت حلمي معه، وفعلاً تعلق قلب محمد بالمسجد. أنهت كلامها، لتبدأ أفكار حليمة بالتصارع في أي مكان ستدفن الصرار، تلك الأفكار المتزاحمة والممزوجة ببريق عين لامع لم تره (أم محمد) من قبل على عيني حليمة!

وعاء حلبة نتن

كالعادة أقوم بزيارات الكثيرة لبيت (حليمة) بحجة أخذ بعض الاحتياجات، وعلى ما يبدو أن حليمة سئمت من ذلك حقاً، وهي مستاءة جداً من تكرار زيارتي لها، أناولها (وعاء الحلبة) تنظر لي وكأن عينيها تطردني خارجاً فور ما تأخذ وعاء الحلبة من يدي في كل مرة. أتوجه إلى سرير الطفل الذي دفعني على التطفل كل صباح، أتأمله، يفوق الجمال، هو أيضاً قد توارث فيه حسن يوسف، يتغطى نصف جبينه بذلك الصوف الأزرق، وقد لف (بالقماط) وأحكم ربطه حتى لا تتحرك يداه مطلقاً.

كانت تسيطر علينا خرافة أن الأطفال يخافون من أيديهم إذا تحركت أو ارتفعت أعلى نظرهم، ويظنون أنها جزء آخر ليس من جسدهم، فيهمون بالبكاء في كل مرة تتحرك أيديهم للأعلى، فما كان من الأمهات إلا أن تلف ذلك الوشاح الطويل حتى تقيد أيديهم بإحكام على أجسامهم، فتثبط حركتهم، وكان متعارفا عليه يومها (بالقماط) .

تداهم نظري، تحمله من أمامي بحجة تغيير (حفاظه)، تلقيه في الأرض ليتبين لي صراره المتعلق بقطعة بلاستيك أخضر، الذي تمنيت رؤيته أيضا في نفس الوهلة التي سمعت فيها عن عظمة ذلك الصرار في الحياة، تنظر هي أيضاً إليه، بريق عينيها يلمع مجدداً كما لمع في نفس الوهلة حينما أخبرتها (أم محمد) عن السر الذي جعل ابنها إمام مسجد، تتمعن ذلك الصرار حتى يغط صغيرها مجدداً في النوم. كانت قد وضعت ألف خطة لدفن الصرار، وغرز الطمع جشعه على لحمة قلبها، تمنت لو كان له ألف صرار حتى تدفن كل واحد حيث تشاء من المترفات والحياة، والآلاف المؤلفة من التخيلات والأفكار، والطمع.

تعود الشمس من جديد كما يتكرر ذلك كل يوم، وعاء الحلبة كالمعتاد في يدي، وأذهب به مجدداً إلى منزل حليمة، التي ما عادت تحتمل نصف زيارة مني إلى منزلها، تفتح الباب ونظرها للأعلى مصحوب بتنهيدة غضب: ادخلي. أناولها وعاء الحلبة، وأنساق كعادتي إلى السرير، أمعن نظري فيه متمتمة: كيف أصبحت اليوم؟، تداهم نظري، تحمله بغضب إلى المرحاض بحجة تغيير حفاظه، تجرده من ثيابه والخوف ينهشها على ذلك الصرار المتعلق بجميع أحلامها وخططها، أقترب منها ليتضح لي مجال الرؤية أكثر.

أخيراً يسقط صراره بعد ما بقي متعلقاً بقطعة لحم جافة في آخر أيامه، تحمله من ذلك المرحاض، يدان راجفتان، دموعٌ كثيرة، وتصبب عرق ملحوظ، تستعيذ من الشيطان وهي تلفه بقطعة قماش قد حضرتها مسبقاً من أجل الحفاظ عليه، خوفاً من أن يدخل الشيطان بينه وبين القطعة، كما سمعت من أمها مؤخراً أنه يدخل بين الظفر واللحم ويفسد الإنسان، حتى كانت حريصة على تقليم أظافرها بانتظام، خوفاً من أن ينجح الشيطان في إغوائها.

أقتربت منها أكثر، تنهي طقوس تحميم طفلها الناقصة، تخرج مسرعةً، تضعه على سريره، وتهمله فرحاً بالصرار، ما زالت تحاول إخفاء ذلك الصرار حتى لا ينكشف سره لأي مخلوق سواها، إلا أنها لا تعلم أن سرها قد كشف، ونضخ شرط من تلك الشروط.

تعود ثانيةً إلى المرحاض لغسله، فوبيا تنظيف الصرار ورائحته النتنة سيطرت عليها، تفتح الماء مجدداً، تتلبس يديها رعشة الفرح، تقربه من المرحاض، ينزلق متسارعاً إلى البلاعة، سرعته فاقت سرعة نظرها له، سرعة الطمع الذي سّور لحمة قلبها حين عرفت سر ذاك الصرار، وسرعة صوته المتردد في أذنها وهو ينزل منزوياً من مجاري المياه إلى قعر أرض غير معروفة، تسكت كل الأشياء من حولها، تظن أنها في حلم، تندثر خططها الكثيرة وأطماعها التي غلفتها مع أكبر خرافة، يأذن (محمد) تعود بذلك الصوت إلى الحياة والواقع.

عزيزي يوسف الآن وليس آنفاً، أقف خلف ذات النافذة التي استرقت منها النظر والسر يوماً، وها أنا في ذات النافذة أرى كيف نجحت الخالة حليمة في إطعامك تلك الخرافة مع كل جرعة حليب، وكيف نجحت في إقناعك أن مستقبلك غرق في بلاعةٍ ذات يوم مع غرق (صرارك المنتظر)، عزيزي يوسف، تقيأ تلك علبة الخرافات التي أطعموها لك، وعد إلى رشدك!

تأليف-

انتصار بنت سالم الفليتية