الملف السياسي

الموقف الفلسطيني .. يحتاجه الجميع ولا يمكن القفز عليه !!

03 يوليو 2018
03 يوليو 2018

د. عبدالحميد الموافي -

لعله من الأهمية بمكان ، الإشارة إلى أن الاهتمام المصري بفلسطين هو اهتمام تاريخي ، يعود إلى ما قبل الميلاد ، ويرتبط في الوقت ذاته بالأمن القومي المصري ، ومعاهدة « قادش بين رمسيس الثاني و « الحيثيين « كانت نموذجا مبكرا ، خاصة وأن كل التهديدات التي تعرضت لها مصر ، على امتداد تاريخها ، جاءت في معظمها عبر فلسطين .

وبينما لم تكن مصر بعيدة عن التطورات في فلسطين ، في فترة ما بين الحربين العالميتين ، وسعت إلى مواجهة الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي ، ومحاولات بريطانيا تمهيد الطريق لسيطرة العصابات الصهيونية على مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية ، بحكم أن بريطانيا كانت صاحبة الكلمة في فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني ، فإن مصر حرصت على أن تشارك فلسطين ، بشكل ما ، في جهود إنشاء جامعة الدول العربية ، وقد تضمن ميثاق جامعة الدول العربية في مارس 1945 ، بين ملاحقه ، ملحقا خاصا بفلسطين ، تعبيرا عن الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية ، ورغبة في مساعدة الأشقاء الفلسطينيين على نيل حقوقهم الوطنية . وبالفعل تم اختيار مندوب من عرب فلسطين للمشاركة في أعمال مجلس الجامعة ، المتعلقة بفلسطين ، فهو يعبر عن وجهة النظر الفلسطينية ، ولكن دون أن يكون له حق التصويت على قرارات مجلس الجامعة ، واستمر ذلك حتى تم قبول فلسطين عضوا في الجامعة ، في عام 1974 بشكل استثنائي ، ومن منطلق الدعم العربي للحقوق الفلسطينية ، على أن تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية ، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني . وعلى امتداد السنوات الماضية تبلور الموقف العربي العام بالنسبة للقضية الفلسطينية في القبول العربي بما يقبل به الفلسطينيون ، الذين تعبر منظمة التحرير الفلسطينية عنهم ، ولا تزال المنظمة هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة - بعد قبول فلسطين دولة غير كاملة العضوية - وبالرغم من أن الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس ، منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بالقوة المسلحة عام 2007 ، قد ألقى بظلاله على الأوضاع الفلسطينية ، خاصة وأن حركة حماس لم تنضم حتى الآن إلى منظمة التحرير الفلسطينية ، لأسباب معروفة ، إلا أنه يمكن القول إن الموقف الفلسطيني ، وبرغم ما يعتريه من ضعف سياسي وبنيوي ، إلا أن منظمة التحرير الفلسطينية لا تزال تمتلك شرعية تمثيل الموقف الفلسطيني والتعبير عنه ، وكانت اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني الأخيرة في أواخر أبريل الماضي في رام الله ، والتي قاطعتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي ، مؤشرا واضحا على ذلك أيضا .

وفي ظل ما يطرح خلال الفترة الراهنة من أحاديث وجدل لم يتوقف حول ما يطلق عليه «صفقة القرن» ، التي تقوم الإدارة الأمريكية الحالية ببلورتها كمحاولة من جانبها لتسوية القضية الفلسطينية ، عبر محاولة بناء توافق إقليمي ودولي مؤيد لهذه الصفقة ، التي لم تعلن حتى الآن ، والتي وصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس ما تم تسريبه بشأنها بأنه « صفعة القرن « ، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي :

*أولا : إن الأهمية السياسية والدينية والمعنوية والدعائية للقضية الفلسطينية ، هي أهمية كبيرة على الصعيد العربي بوجه خاص ، والإسلامي بوجه عام . وعلى مدى عقود طويلة استخدمت العديد من الأنظمة العربية القضية الفلسطينية كشعار للتنافس والمزايدة فيما بينها ، وتبرير سياساتها على المستوى العربي في أحيان كثيرة ، بغض النظر عما تقوم به تلك الأنظمة ، أو بعضها على الأقل ، من ممارسات ضد الفلسطينيين أنفسهم المتواجدين فيها . ومن ثم فإنه إذا كان الجميع يؤكد اصطفافه إلى جانب الحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين ، ويتمسك بتحقيقها ، بغض النظر عن موقفه العملي منها ، فإنه لا أحد ، ولا نظام و لا أي طرف عربي ، يمكنه المخاطرة بالإقدام على التخلي ، أو حتى الظهور بمظهر الذي يتخلى عن الحقوق الفلسطينية ، تحت أي ظرف من الظروف . لأن ذلك سيعني ببساطة الثورة الفلسطينية والعربية في وجهه ، بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج . وهذا معناه أيضا ، أن الجانب الفلسطيني ، الذي تعبر عنه منظمة التحرير الفلسطينية ، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين ، هو الذي يمتلك الحق والقدرة على التعبير عن الموقف الفلسطيني في النهاية . ويعد ذلك في الواقع محور القوة في الموقف الفلسطيني في النهاية . صحيح أن الموقف الفلسطيني العام يعاني من جوانب ضعف عديدة ومتنوعة ، خاصة في ظل الانقسام القائم والمستمر منذ أكثر من عشر سنوات بين حركتي فتح وحماس ، والذي وصل إلى حد محاولة ضرب منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها ، وتشكيك حماس في تمثيلها للموقف الفلسطيني ، ولكن الصحيح أيضا هو أن الموقف الفلسطيني الذي تقبل به ، وتعبر عنه المنظمة يظل ضروريا ، ولا غنى عنه ، في أية تسوية سلمية للقضية الفلسطينية . وقد عبر الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عن ذلك بقوله إن الموقف الفلسطيني «هو الرقم الصعب في الحل السلمي للقضية». والأكثر من ذلك أن المحاولات الأمريكية السابقة لتسوية القضية الفلسطينية ، وأبرزها محاولة إدارة الرئيس كلينتون عام 2000 ، والتي شارك فيها ياسر عرفات نفسه ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين - الذي اغتيل بعد ذلك بسبب موقفه - لم تنجح بسبب تراجع عرفات عن الموافقة عليها ، برغم أنها كانت بالتأكيد أفضل كثيرا مما تعرضه صفقة القرن التي لم تعلن تفاصيلها بعد . ولعل إدراك الرئيس الفلسطيني محمود عباس لهذه الحقيقة المتعلقة بقوة امتلاك الموقف الفلسطيني ، هو ما جعله يتخذ موقفا معارضا و قويا من « صفعة القرن» على حد وصفه ، بل إنه أوقف الاتصال مع الإدارة الأمريكية الحالية ، بعد اعترافها في ديسمبر الماضي بالقدس عاصمة لإسرائيل ، ونقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إليها في 14 مايو الماضي ، كما رفض الالتقاء مع كوشنر- الذي أعرب عن استعداده لذلك - خلال زيارته الأخيرة للمنطقة ضمن حضور عربي .

*ثانيا : إن الدول العربية ، في تعاملها مع التطورات المختلفة للقضية الفلسطينية ، قد تبنت دوما مبدأ « نوافق على ما يوافق عليه الأشقاء الفلسطينيون» ، فهم أصحاب القضية ، وأصحاب الحق . ولم تحاول أية دولة عربية أن تحل محل الفلسطينيين ، أو تقبل نيابة عنهم ما لا يوافقون عليه . وحتى اتفاقيتي كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978 لم تحل فيها مصر محل الفلسطينيين ، بل هيأت الفرصة لمفاوضات بين إسرائيل ووفود فلسطينية وعربية للاتفاق على خطوات الحل السلمي وهو ما لم يتم الاستجابة إليه . وبينما تركزت اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 ، واتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل عام 1993 على ما يخص مصر والأردن ، فان اتفاق أوسلو عام 1994 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية تم بمعرفة الفلسطينيين-عرفات نفسه - كما أن المبادرة العربية التي صدرت عن قمة بيروت العربية عام 2002 والتي تضمنت اعترافا بإسرائيل والدخول معها في علاقات طبيعية ، ظلت مشروطة باستعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية . وبالتالي فإن العرب ، على المستويين الفردي والجماعي ظلوا ، حتى الآن على الأقل ، متمسكين بالحقوق الفلسطينية . ولن يستطيع أحد من العرب أن يجازف بالتخلي عنها أو عن بعضها تحت أية ظروف . ولذا فإن الكرة تظل في الملعب الفلسطيني ، وتظل منظمة التحرير الفلسطينية هي من يمكنه القبول ، أو الإعلان عن حدود ما تراه مقبولا بالنسبة لها في إطار تسوية سلمية . وفي هذه الحالة ، فإن كل العرب سوف يختبئون وراءها ويؤيدون ما تقبله المنظمة ، باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في النهاية . وبقدر أهمية وضرورة استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية بين حماس وفتح ، واستيعاب حماس في عضوية منظمة التحرير الفلسطينية ، فإنه من المؤكد أن حماس لا يمكنها الحلول محل منظمة التحرير ، لأنها لا تملك القدرة على تحمل مسؤولية الدخول في تسوية سلمية مع إسرائيل ، كما لا تملك القدرة على تحقيق ذلك لاعتبارات كثيرة . ولذا تظل منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها محمود عباس ، وهو في الوقت ذاته رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله ، طرفا مهما ولا غنى عنه في أية تسوية سلمية حقيقية للقضية الفلسطينية ، خاصة وان أية قيادات جديدة ، أو بديلة لن تتمكن من الإقدام على ما يمكن أن يتخذه محمود عباس من مواقف أو خطوات للحل السلمي ، وكل الأطراف ، أو معظمها على الأقل ، بمن فيهم الأمريكيون ، يدركون ذلك الى حد غير قليل ، حتى وان حاولوا الضغط على الرئيس الفلسطيني أو التقليل من أهمية دوره بشكل مقصود أحيانا ، والأهم أن عباس نفسه يدرك ذلك بعمق .

*ثالثا : إنه إذا كانت الدول العربية تريد أن يتحمل الجانب الفلسطيني ، بشكل أساسي ، مسؤولية أية تنازلات تحدث في إطار التسوية السلمية للقضية الفلسطينية ، فإن الأطراف العربية وإسرائيل بالطبع ستكون حريصة على أن يتوفر إطار عربي للقبول بتلك التسوية ودعمها من خلال جامعة الدول العربية ، وهذا لن يتم إلا بالقبول الفلسطيني بتلك التسوية المفترضة ، ولكن المشكلة أن « صفقة القرن» لا تستجيب ولا تفي بأي من متطلباتها .

من جانب آخر فإنه في ظل المجموعة الكبيرة من القرارات الدولية ، الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها ، كاليونسكو والمجلس الدولي لحقوق الإنسان اللذين انسحبت أمريكا منهما هذا العام ، فإنه سيكون صعبا إلى حد غير فليل الدفع بتسوية للقضية الفلسطينية ، تتجاهل الحقوق الفلسطينية المشروعة ، وعلى الأقل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وذلك في إطار حل الدولتين . صحيح أن الرئيس الأمريكي ترامب منح إسرائيل أكثر مما تتمنى على حساب الفلسطينيين ، وهو ما لا يملكه ، ولكن الصحيح في النهاية ، أنه لا يمكن فرض حل على الفلسطينيين . فلا يمكن ، تحت أي ظرف من الظروف أن يحل ما يسميه الأمريكيون «توافق إقليمي دولي» ، أيا كان هذا التوافق ، محل الفلسطينيين ، كما بسعي ترامب وصهره كوشنر .

ومن ثم فإنه لا يمكن في النهاية تجاهل الفلسطينيين ، أو وضعهم جانبا ، أو القفز عليهم ، ولا الاستغناء عن موافقتهم كطرف أصيل في أية تسوية ، وهذا هو المأزق الحقيقي الذي واجهته ـ وتواجهه ، كل المحاولات غير العادلة لتسوية القضية ومنها « صفقة أو صفعة القرن « ، كما أنه ليس هناك قيادة وطنية فلسطينية يمكنها الموافقة ، أو التلويح بإمكانية ذلك ، لأن ذلك سيكون فيه نهايتها بشكل أو آخر . وليس من المبالغة في شيء القول إن التأجيل المتكرر للإعلان عن الصفقة ، هو أحد المؤشرات على المأزق الذي تواجهه ، والذي ستواجهه أيضا عقب الإعلان عنها .