أفكار وآراء

«الامتياز التاريخي للوظيفة».. وجاذبية القطاع الخاص !

01 يوليو 2018
01 يوليو 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

بعض الشباب القادمين إلى الوظيفة، يفضلون الوظيفة في القطاع الخاص، ويرون العمل فيه السبيل لتحقيق ما يصبون إليه من تقدم مهني ومعرفي، مع علمهم بالامتيازات الوظيفية في القطاع العام.

تداول ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ ومنها الـ«واتس آب» منذ فترة ليست ببعيدة مقطعا يظهر فيه أحد المحافظين في دولة عربية شقيقة يزور مديرية من مديريات العمل في الدولة، فإذا به يتفاجأ بكم المراجعين المرابطين خارج المديرية تحت أشعة الشمس الحارقة، وهم في حالة يرثى لها، وذلك من أثر إغلاق مكاتب المديرية؛ مع أن الموظفين بالداخل يتناولون كؤوس الشاي تحت أجهزة التكييف، وفي ارتياح تام، مما حدا بالمحافظ بإصدار أمر بخروج جميع من في المكاتب بمكاتبهم في الساحة العامة لإنجاز معاملات المراجعين تحت أشعة الشمس الحارقة التي يكتوي بها المراجعون، مما أحدث المقطع ردود فعل كثيرة، وتناولته الإذاعات العالمية.

هذه الصورة؛ يقينا؛ ليست مقصورة على محافظة في تلك الدولة العربية الشقيقة فقط، ولكن ربما جرتها الصدفة لأن تكون نموذجا في لحظتها الزمنية فقط، وإنما هي حالة عامة ومتكررة في كثير من التجارب الإدارية في وطننا العربي الكبير؛ بلا استثناء تقريبا ؛ ولو بصور وبنماذج مختلفة، حيث ينظر الى الوظيفة الحكومية على أنها غاية يجب الوصول إليها. ومتى تم ذلك أصبحت امتيازا تاريخيا للموظف، بغض النظر عن مستوى أدائه، وكفاءته، ومدى استحقاق بقائه فيها ردحا من الزمن، ولم تكن في يوم من الأيام وسيلة لإنجاز المهام والمسؤوليات الملقاة على عاتق الموظف، ولهذا فقدت الوظيفة الحكومية؛ على وجه الخصوص؛ هيبتها لأن تكون «بيت خبرة» لمختلف الأنظمة الإدارية والاقتصادية في الكثير من الدول، وهذا ما يؤسف له حقا، خاصة بعد أن قطعت هذه التجربة الإدارية في كل البلدان العربية شوطا كبيرا من الخبرات والممارسات طوال السنوات التي مرت بها ولا تزال ينطبق عليها المثل العربي المعروف: «تمخض الجمل فولد فأرا» ولذلك أسباب كثيرة، أغلبها ثقافية، حيث لم تؤسس التجربة الإدارية في الوطن العربي على ثقافة العمل بالقانون، وإنما أسست على ثقافة العمل بالعرف، وهذا العرف خاضع للوجاهة الاجتماعية اكثر منه للحاجة الزمنية والمكانية للوظيفة، وهذه مصيبة المصائب.

عندما تكدست أوراق الإنذارات على مكاتب مديري الموارد البشرية من أثر استهتار كثير من الموظفين بقوانين الوظيفة اليومية: الغياب المستمر، التأخر المستمر، الخروج المبكر المستمر، الأعذار الواهية المستمرة، ومنها الأعذار الطبية، قلة الإنتاجية المستمرة، استحدثت مقابل ذلك الأجهزة الحديثة التي لعلها أن تقلب موازين المفاهيم المتأصلة لدى الموظف الحكومي، فتعيده إلى جادة الصواب، وتنصف هذه الوظيفة المغلوب على أمرها، حيث جاءت البصمة الإلكترونية، المعاملة الإلكترونية، خط سير الإنتاج الإلكتروني، ومع ذلك ظل الحال كما هو يراوح مكانه تقريبا ، ومما قرأته في مثل هذه المحاولات النص التالي؛ الذي جاء عبر تقرير لوكالة « بلومبيرج » الأمريكية ، يقول التقرير – واتحفظ هنا على اسم الدولة -: «في العام الماضي (2017م) طالبت حكومة تلك الدولة موظفي القطاع العام بتمرير أصابعهم على أجهزة قارئة للمؤشرات الحيوية (مثل البصمة) كل صباح لتسجيل حضورهم، ووفقا لـ وكيل وزارة المالية في تلك الدولة العربية ، استقال نحو (5) آلاف موظف في الربع التالي. الكثيرون منهم ما كانوا يحضرون تقريبا، وكانوا قلقين من أن هذه القاعدة ستكشفهم» – انتهى النص.

ويبدو أن الجملة التي تلوكها الألسن بصورة مستمرة: «الحكومة أم الجميع» لها أثر نفسي متوغل في ذهن كثير من الموظفين، ولها نتائج عكسية على مفهوم العمل الحديث القائم على المكسب، بغض النظر إن كان هذا العمل خاصا أم عاما، فالتركيز على مكسب الوظيفة في القطاع الخاص، أعطى هذا القطاع الكثير من المكاسب والامتيازات الإنتاجية، بعكس القطاع العام، الذي لا يزال يئن تحت مفهوم الأمومة، وهذه أيضا تدخل في الفهم الثقافي للوظيفة، وبالتالي أصبح العمل على الخروج من مستنقع هذه الثقافة والتحرر منها أمرا بالغ الأهمية، وإلا فالمسألة مرشحة لمزيد من البحث عن الامتيازات التاريخية للوظيفة الحكومية على وجه الخصوص.

لأن؛ وحسب التقرير الذي أشرت إليه؛ تأتي « فاتورة الأجور – التي تعد أكبر بند إنفاق في معظم الحالات، وبفارق كبير عن البند التالي لها – ستكون ميدانا واضحا للبدء به، لكنها أصبحت قضية خطيرة مثيرة للجدل بصورة ما، ولم يتم الاقتراب منها إلا مخاطرة سياسية عالية» حيث يقول ستيفن هيرتوغ؛ الأستاذ بمدرسة لندن للاقتصاد – وأيضا وفق التقرير ذاته -: «إن الضمانة التاريخية للوظائف الحكومية لا يمكن الاستمرار في التمسك بها “مضيفا في الوقت نفسه: «أن المساس بالرواتب العامة سيعني تغييرا في دور العقد الاجتماعي؛ ويخص هنا؛ الخليجي»

والقصة ليست فقط مقصورة على هذه النقطة «الامتياز التاريخي للوظيفة الحكومية» وإنما تقوض هذا الامتياز مجموعة القوى العاملة المتدفقة الى سوق العمل، ويبدو أنه من المستحيل بمكان استيعاب الحكومة لكل هذه المجموعات المتدفقة والمؤهلة لسوق العمل، مع أن إمكانياتها الفنية أعلى بكثير من سابقاتها المتربعة اليوم على عرش كرسي الوظيفة، فهؤلاء مؤهلون تأهيلا فنيا في مختلف المجالات، ولهم القدرات الفنية والمعرفية لإحداث تغييرات فنية كثيرة في مفهوم الوظيفة، وأنظمتها، وآليات العمل الذي تسير عليه حاليا؛ متى أتيحت لهم الفرصة لذلك، وبالتالي أصبح من الضرورة بمكان إحداث تغييرات جذرية، وأهمها إزالة الفهم الثقافي لحقيقة الوظيفة؛ والذي خيم ردحا من الزمن؛ من أن الوظيفة الحكومية هي «امتياز تاريخي للمواطن» أو أن «الحكومة أم المواطن» بصورة سفسطائية، غير قابلة للحوار العقلاني الذي تمليه الظروف المختلفة في كل لحظة وحين، وإذا كانت مداخيل النفط، وهو المصدر الوحيد لدى كثير من الدول العربية وخاصة الخليجية، قد أتاحت منذ أواخر القرن العشرين المنصرم، فسحة أصلت هذا الفهم الثقافي لدى الغالبية من الموظفين، الذين لا يزالون على مقاعد الوظيفة حتى الآن، فإن هذا الواقع بدأ يتقلص شيئا فشيئا، بسبب تذبذب أسعار النفط من ناحية، وتنامي القوى العاملة الشابة من ناحية ثانية، حيث تتوالى «الهدايا الديموغرافية» لسوق العمل، في مختلف دول الوطن العربي، من أثر نمو الخصوبة فيها، حيث تعيش معظم دوله نموا سكانيا غير منكور، تمثله الفئة الشابة بلا منازع فتصل في بعضها إلى نسبة (70%) وهذه النسبة لها استحقاقاتها الوظيفية، فهي قوة عاملة متدفقة طموحا وتأهيلا، وبالتالي فمتى طغت عليها هذه الثقافة المحبطة بعد التحاقها بالوظيفة، يقينا سوف تنكمش وتصبح كسابقاتها من الدفعات التي أركنت مؤهلاتها المعرفية والفنية، وغرقت في الروتين القاتل للوظيفة الحكومية، وأصبح الهاجس اليومي: «متى تنتهي ساعات الدوام الرسمي» بدلا من العمل على ما يجب إنجازه اليوم، وليس تحويله إلى الغد، ولذلك نرى تلك الفرحات الغامرة التي تنتاب الموظفين مع اقتراب الإجازات الرسمية والاعتيادية، وذلك الشعور المشبوب بالحزن والتكاسل مع بدء دوام يوم الغد.

من خلال ملاحظاتي البسيطة، ألمس في بعض هؤلاء الشباب القادمين إلى الوظيفة، أن منهم من يفضلون الوظيفة في القطاع الخاص، ويرون العمل فيه السبيل لتحقيق ما يصبون إليه من تقدم مهني ومعرفي، مع علمهم بالامتيازات الوظيفية في القطاع العام، من حيث: الإجازات الأطول، والمكافآت المالية؛ التي ليس لها أساس مقنع؛ والترقي بالسنوات؛ بغض النظر عن كفاءة هذا الموظف، وعن استهتار الآخر، والرواتب الأعلى في بعضها الآخر، ومع ذلك يرون أن العمل في القطاع الخاص فيه تحقيقا للذات اكثر، وهم قلة أيضا، وبالتالي فعلى القطاع الخاص أن يستغل هذا الإقبال الذي يجده في بعض هؤلاء الشباب، خاصة وأن هذا القطاع على وجه الخصوص يسعى الى الربح أكثر منه الى تأصيل مفهوم «الامتياز التاريخي للوظيفة».