1378778
1378778
المنوعات

بثينة العيسى تسرد وحشية البشر.. ورحلة الاختطاف بقالب مليء بالعاطفة

01 يوليو 2018
01 يوليو 2018

عبر روايتها «خرائط التيه»

قراءة - شذى البلوشية -

حاكت رواية “خرائط التيه” للكاتبة الكويتية بثينة العيسى معاني عدة في قالب مليء بالتشويق المبطن بالألم، فالرواية استطاعت بتفاصيلها الصغيرة أن تجذب القارئ، وأن تلامس القلب لا سيما أن الأحداث تدور حول طفل صغير تم اختطافه، لتسرق العاطفة، وتجذب الانتباه، وتشوق القارئ، مع مزيج من حالات التوتر الذي يعيشها القارئ وهو يتتبع الأحداث في خرائط مليئة بالتيه.

تحكي الرواية قصة العائلة الكويتية “فيصل وزوجته سمية وطفلهما الوحيد مشاري”، المتوجهين إلى أداء فريضة الحج، لتدور كل تفاصيل الرواية ووقائعها المعقدة في مكة المكرمة والمناطق المحيطة بها.

تبدأ الرواية بنسج الأحداث من لحظة الطواف حول البيت الحرام، حين تفقد “سمية” ابنها “مشاري” بين الزحام، وتبحث عنه هي وزوجها “فيصل” وفي كل ساعة تمضي تزداد الحيرة والخوف والقلق، على طفل ضاع وسط أعداد غفيرة من الحجاج القادمين من مختلف أنحاء العالم، وينال التعب والإجهاد من جسديهما إذ لا أثر ولا دليل على وجوده في مختلف الأماكن، فبعد حالة الرعب التي حاكت الكاتبة تفاصيلها الدقيقة حين وصل إلى “فيصل” نبأ وجود طفل يحمل بعض ملامح طفلهما المفقود، والذي وصفته الكاتبة بدقة شديدة “شعر أسود غزير، غرة كثيفة، بشرة فاتحة، هزيل بإفراط، يبدو في الخامسة ولكنه في السابعة، يرتدي بلوزة برتقالية وبنطلون بيج، عنده شامة بنية في رقبته، وفراغ في أسنانه الأمامية”.

كان النبأ عن طفل توفي وسط الزحام، بعد أن بحث فيصل عن ابنه مشاري بين الأطفال التائهين، ووسط المصابين، بلغ به اليأس للحد الذي توقع أن يكون نبأ الطفل المتوفي هو ابنه الوحيد، ولكن الفرح المختلط بخيبة الأمل قد دله إلى طفل غير طفله قد فارق الحياة، ولكن الأمل الضئيل لا يمكن أن يمنع من تسلل اليأس بأن طفلهما الوحيد قد يكون ميتا في مكان آخر، أو حيا ولكن في حال أسوأ من الموت، وبعد أن شعر الاثنان أنهما وحيدان وسط جموع غفيرة من مختلف أجناس البشر، ونفدت جميع الوسائل لإيجاد “مشاري” في الحيز المغلق للحرم، وصار البحث يحتاج قوة أكبر، وعددا أكثر من الأشخاص، فكان الشخص الوحيد الذي استعان به “فيصل” خلال هذه اللحظة التي أحس فيها هو وزوجته أنهما غريقان في بحر التيه هو شقيقه الوحيد “سعود”.

حادثة اختفاء الطفل أجبرت والده على خلع ملابس الإحرام والتخلي عن مناسك الحج الذي كان قاصدا مكة لأدائه، شعر “فيصل” بالسخط تجاه الكون بأسره، وبدأ يتردد على المستشفيات من حول الحرم علّه يمسك بأي بصيص من الأمل للقاء طفله الضائع، ولكن السخط الشديد الذي أصاب “فيصل” منعه حتى من أداء الصلاة، بينما اعتكفت “سمية” بعد فقد الأمل بالبشر فلجأت لرب البشر، وبدأت بالصلاة والدعاء، وهنا صار الحد الفاصل بين سمية وفيصل يكبر، وكلاهما بدأ يلوم الآخر، وصار البعد شاسعا بينهما للحد الذي صار الاثنان يبحثان بطرق مختلفة، ومع استمرار عمليات البحث المكثفة التي جعلت “فيصل” يتجه يمينا وشمالا باحثا في الأنحاء عن طفله المفقود، جاءت البشرى بالبحث في غرفة عمليات أمن الحرم، الذي استغرق فيها البحث ساعتين للوصول إلى تسجيل كاميرات المراقبة للحظة اختطاف “مشاري” بيدي المرأة السوداء التي تغطي وجهها بالنقاب، وتستغل فرصة استعانة “مشاري” بها بإخراجه رقم هاتف والده المدون في الورقة التي أخفاها في جيبه، وتغطي وجهه الصغير بقفازها الأبيض، فتخدره وتحمله تحت خمارها، وتخرج من الحرم كأي أم تحمل طفلها.

كانت عملية الاختطاف محكمة الخطة، حيث اعتادت النساء الإفريقيات بقيادة “جرجس” اختطاف الأطفال وتهريبهم إلى إفريقيا، فكان “مشاري” أحد هذه الضحايا، وبالمصادفة يلتقي فيصل وسمية بعائلة هندية فقدوا ابنتهم الوحيدة “مريم” دون علمهم أنها تتشارك مع مشاري ذات الحال في بيت جرجس، وربما يكون حالها أسوأ بعد أن قام جرجس باغتصابها وهي ابنة العاشرة، وبدأت حالتها تسوء حتى توفت في عرض البحر، حينما انتقل المختطفون بالأطفال إلى سيناء، وألقى جرجس بجثتها لتكون طعاما للقرش، ولكن “مشاري” استطاع الفرار بعد أن كان المختطفون يحاول كل فرد منهم الهروب بالطفل أملا في الحصول على المليون دولار من عائلته، فهرب الصغير مختفيا في الظلام وبدأ بالركض حافيا لساعات دون أن يصدر أي صوت خوفا من التقاط العصابة له، وإذا به يجد نفسه في غرفة صغيرة ويسقيه عامل مزرعة بعض الماء، ليظن أنه صار في أمان، وأن رحلة المعاناة قد انتهت بعد مغادرة العصابة بعيدا عنه، ولكن نوايا عامل المزرعة الذي عاش سنوات لوحده لم تكن أفضل مما كان يخطط له جرجس وأعوانه.

وبدأ فصل جديد في رحلة اختفاء “مشاري”، حيث الخوف الأكبر الذي لاقاه ببقائه مع عامل المزرعة “نظام شجاع الدين”، الذي بدا له في البداية أنه المنقذ الذي سيعيده إلى والده، وطوق النجاة ليعود إلى الكويت، إلا أن نظام كان يبقي الصبي ليأنس برفقته وينسيه وحدته، وحين رأى أن الصغير لا يستجيب لكل ما يطلبه منه، استعمل العنف وبدأ باغتصابه مرارا وتكرارا، وربما بعد أن شعر أن الصبي يسبب له نوعا من الخطر، لاسيما عندما حرمه من الطعام وبدأ الصغير يمرض، وخشي أن يتسبب في موته، وبعد أن تغير نظام حياته وبدأ يشعر أنه صار يتأخر في الاستيقاظ صباحا، ولا يتقن أداء عمله اليومي في المزرعة، وصار يتفاقم لديه هاجس أن السبب في ذلك هو لعنة الطفل الصغير، فأراد التخلص منه وأخذه ليلا إلى أحد الكهوف تاركا إياه بمفرده، بعد أن حاول ذبحه بالسكين للتخلص منه، وفشل في ذلك بعد بكاء الصغير، فكان خيار تركه في كهف تستعمره الوطاويط أهون عليه من الذبح، وما لبث أن غادر المكان مع سماعه صراخ الصغير يتعالى، ويتردد صداه في أذنيه، عاد مجددا ليجده قد تسمر في زاوية الكهف دون حركة، وعلم أن مئات الوطاويط قد لطمت وجهه للحد الذي يبدو أنه قد فارق الحياة من شدة الخوف.

ومن زاوية أخرى فإن عملية البحث التي قام بها فيصل وسعود قد تطورت حد وصوله إلى إحدى نساء عصابة جرجس، بعد أن تحرى الشرطة عن المختطفين، وعند الوصول إليهما وظن فيصل أنه سيلتقي بابنه اكتشف أن جرجس عبر البحر إلى سيناء وقد أخذ الأطفال ومعهم “مشاري”، واكتشف أن رحلة سيناء هي فقط لبيع أعضائهم، ومع البحث وجد رجال الشرطة “روينا” وقد طعنت بالسكين في بطنها ولكنها لم تمت، ونقلت إلى المستشفى ومن خلال النساء تبين أنها فعلا هي خاطفة “مشاري”، ولكن لا أثر على الأطفال وجرجس الذي عبر حتما البحر هاربا، واستقل فيصل وسعود الطائرة متوجهين إلى سيناء في رحلة بحث عبر صحراء واسعة، وبين جثث الموتى، دون وجود أي بصيص أمل للقاء “مشاري” التائه في مكان آخر بعيدا تماما عن بحثهما، وفعلا تأتي البشرى من خلال اتصال “سمية” التي بقت تنتظر استيقاظ “روينا” وبعد التحقيق معها، أخبرتهم أن “مشاري” قد هرب ولم يكن في القارب مع جرجس، فعاد الاثنان من سيناء، وبدأت عملية البحث في المنطقة القريبة من مرسى قارب جرجس، وبمساعدة أهالي المنطقة استطاعت الشرطة أن تجد “مشاري” لدى أحد المزارعين الذي يسكن في منزله برفقة زوجته العجوز، بعد أن أبلغوا عن طفل ملفوفا ببطانية وقد شخص بصره ولا يبدي أي تعابير عند التحدث معه للدرجة التي توقع الرجل أنه أصم، ولم ينطق بأي كلمة، حتى مع وصول أهله وتعرفهم عليه وقد بدا أنه كان على حافة الموت.

ختمت العيسى روايتها برسالتين إحداهما كانت لمصطفى، رجل التحريات الذي كان يتابع قضية “مشاري” في سيناء وجهها إلى سعود، يوضح فيها تفاصيل كثير حول عمليات الخطف والتهريب، وبيع الأعضاء، وأعداد كبيرة من الجثث التي دفنت في صحراء “سيناء” بعد أن تم أخذ أعضائها والمتاجرة بها، والقبض على بعض المختطفين، مع انتشار آخرين في أماكن متفرقة، مما يدل على أنها شبكات لها جذور متفرعة في أكثر من منطقة، بينما كانت الرسالة الأخرى التي كتبها سعود إلى مصطفى، يشكره على جهوده، وأوضح أن حالتهم بعد عملية الخطف لم تعد كما كانت سابقا بعد أن أصيب فيصل بالباركنسون، وسمية التي أصبحت ترى الله في كل شيء، وانفصل الاثنان، وحال “مشاري” الذي لم ينطق بأي كلمة إلا بعد مرور عدة شهور، ولم يحدث عما حدث له، إلا أن رؤية عامل البناء جعلته يبلل ملابسه، ورؤية الوطاويط في فيلم الرجل الوطواط أصابته بالذعر حد إخفائه رأسه تحت الوسائد، وصراخه الشديد في كل ليلة، وهو يرفس بقدميه أثناء نومه، وكلها دلائل على أن ما مر به الصغير كان أشد من قدرته على النسيان.

تتمثل في الرواية عدد من المشاهد التي تصورها الكاتبة حيث بشاعة الحياة التي يعيشها الأطفال في بيت جرجس، وقسوة تعامل المختطفين مع الأطفال، مشاهد مليئة بالوحشية والقسوة والعنف في التعامل، لا سيما ما تقوم به راوينا من سكب البلاستيك المذاب في أعين الأطفال، واغتصاب جرجس للفتيات الصغيرات دون رحمة، ليعيش القارئ حالة من التوتر الشديد، بعد قراءة تفاصيل هذه الحياة القاسية، وعملية البحث المستمر.

نوعت الكاتبة في الأسلوب الذي اتبعته لكتابة الرواية لإضافة نوع من الجذب للقارئ، وتباين مستويات التوتر في تتبع حادثة الاختطاف، فهي تنتقل بين كل فصل والآخر من مشاهد المختطفين والأطفال، إلى فيصل وزوجته وأخيه وعمليات البحث التي يؤدوها، كما أنها اتخذت تارة أسلوب المخاطبة والذي استندت فيه إلى تتبع أحداث تدور حول عملية الاختطاف، وبين أحاديث تدور في أذهان فيصل وسمية، وختمتها بسرد الأحداث ما بعد عملية الاختطاف، والعودة إلى الوطن من خلال الرسائل بين “سعود” ومصطفى”، ليكون التشويق حاضرا حتى نهاية الرواية، كما لا يخفى على القراء المقدرة السردية التي تتميز بها الكاتبة، ومستوى اللغة الذي تتمتع به في كتاباتها، وقد يكون عنصر الإثارة أحد الأسباب التي جعلت الرواية قد حققت حسب الإحصائيات مبيعات مرتفعة منذ صدروها في 2015.

جدير بالذكر أن الكاتبة بثينة العيسى من مواليد 1982، لها عدد من الروايات آخرها رواية “كل الأشياء” الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في 2016، ولها مشاركات فاعلة في عدد من الفعاليات الثقافية، وحاصلة على عدد من الجوائز الأدبية.