المنوعات

لوركـا: هـل كان تقلـيديّاً فـي مسـرحـيّته «عـرس الدمّ»؟

30 يونيو 2018
30 يونيو 2018

مدحت صفوت -

مثَّلت مسرحيّة “عرس الدمّ” 1933 للإسباني فيدريكو غارسيا لوركا (٥ /‏ يوليو ١٨٩٨- ١٨ /‏‏ أغسطس ١٩٣٦) واحدة من علامات المسرح العالَميّ وتاريخ الدراما، ولأسباب شتّى انتشرت سريعاً وقت كتابتها، ولم يكتفِ مقدّمو “العمل” بالشكل المسرحيّ، فأُنتِجت في أشكالٍ فنيّة عدّة منها العروض الأوبراليّة والأعمال السينمائيّة.

أعتقد أنّه من المُناسب أن نحتفي بمرور مائة وعشرين عاماً على ميلاد الشاعر والمسرحي الإسباني بإعادة قراءة نصوصه الشعريّة والمسرحيّة، للإحاطة به وبفلسفته أوّلاً في إطار زمنه وسياقه التاريخي. وفي هذه القراءة نتوقّف تحديداً أمام استعارات الدمّ في المسرحيّة المُشار إليها، التي سبق ترجمتها إلى العربيّة بعناوين شتّى أشهرها “عرس الدمّ”، فيما فضَّل الراحل حسين مؤنس ترجمتها بعنوان “الزفاف الدامي”.

ونبع اهتمامي باستعارات “الدمّ” كمدخل لقراءة خطاب لوركا، من ذلك الاحتفاء الذي لاحظته بالدّال “الدمّ”، وتلك الدوال التي تدور في فلكه؛ وإذ قلّما يخلو مشهد من هذه الدوال، وبطبيعة الأمر، قد تتلوّن هذه الدوال بداهةً بحسب السياقات التي تدخل فيها. ومثلما يتصدّر الدمّ عتبة المسرحيّة بشكلٍ مباشر وواضح، فإنّه يتواتر كذلك داخل الخطاب، ويصبح أساس الصراع الدرامي، وهي ملحوظة تحثّ القارئ على الدخول إلى نسيج الشبكة الرؤيويّة للوركا، والتقنيّة التي تزداد تعقيداً كلّما أسلمنا أنفسنا إلى خيوطها، فتقودنا إلى أغوارٍ أبعد في فهم القانون ورؤية الذوات الساردة له في فهم “خطاب” الكاتِب.

تحكي المسرحيّة عن بطلتَين: أمٌّ عفيّةٌ شديدةٌ فقدت زوجاً وابناً ولم يبقَ لها إلّا ولد واحد، وفتاة متوحّدة مع أبيها في مزرعة نائية عن العمران، يضطّرب صدرها بحبّ حبيس لم يُكتب له الفرج بالزواج، ويتقدّم لخطبتها الولد الوحيد الباقي للأمّ التي ذكرناها، وتقبل الزواج منه لتهرب من غرامها الدفين. وتُزفّ بالفعل إلى عريسها، ولكنّ عاشقها القديم ظلّ يحوم حولها حتّى ضلّ عقلها وهربت معه ليلة الزفاف. وتنتهي المأساة بأن يقتل الرجلان أحدهما الآخر، وتظلّ هي والأمّ الثكلى وجهاً لوجه في مشهد العنف والغرابة، وعلى هذا المشهد ينزل الستار.

تتجلّى أولى استعارات الدمّ في مستهلّ العمل المسرحي، من خلال حديث الأمّ التي تكره الدّم ورمزيّته حتّى الموت، مثلما تكره آلات الموت كالسكاكين، لكنّها تستخدم المفردة على ما يشير نحو “العرق” أو الأصل، وعلى نحو إيجابي حين يحملها ابنها مدلِّلاً إيّاها:

الخطيب: “حاملاً أمّه بين ذراعيه” أيّتها العجوز.. أيّتها العجوز الصغيرة.. يا عجوزتي الصغيرة.

فتردّ عليه الأمّ بأنّ أباه كان يفعل ذلك، وأنّه من أصل طيّب، كالجدّ الذي أنجب في كلّ ركن ابناً طيّب الأصل بالتأكيد.

الأم: هكذا كان أبوك يحملني. هكذا يفعل الجنس الأصيل. هكذا يكون الدمّ الزكي. لقد خلَّف جدّك ابناً في كلّ ركن. ذلك يعجبني: الرجال رجال والقمح قمح.

يبدو الابن إذن وارِثاً لطيب العرق والأصالة، في المقابل يرث “ليوناردو” الدمّ الشرير، وسوء العرق أيضاً من أبيه وجدّه، فالخادمة ترى اجتيازه الطرق “عملاً شيطانيّاً” وهي دلالة تمهِّد الطريق لتعليق والد العروس الذي يرى “دمّ ليوناردو دمّ سوء”.

الخادمة: لا. منذ قليل وصل ليوناردو مع زوجته، قطعا الطريق بسرعة الشياطين، ووصلت الزوجة ميّتة من الخوف، طارا إلى هنا كأنّما أتيا على ظهر حصان.

والد العروس: هذا الرجل يبحث عن الشرّ. إنّ دمه دمّ سوء.

يأتي ذلك قبل أن تُعيد الأمّ استخدام استعارة الدمّ بوصفه العرق أو الأصل هذه المرّة مع ما تراه من رداءة في أصل ليوناردو، فهو ابن القتلة الأشرار، المُنتمين إلى الجنس الشرّير، المهرة في استخدام السكاكين والعارِفين كيف يتلوّنون ويرسمون ابتساماتهم الصفراء.

أمّ العريس: أيّ دمّ ذلك الذي يجري في بدنه! إنّه دمّ أسرته كلّها. ورثوه عن جدّ جدّهم، ذلك الملعون الذي بدأ حياته قاتِلاً، وجرى ذلك الدمّ في كلّ هذا الجنس الشرّير، جنس ماهر في استخدام السكاكين، وناس ذوو ابتسامات صفراء كاذِبة.

يقف الابن وليونارد إذن موقفَين مُتناقضَين في مسألة “الدمّ أي الأصل”، لكنّ كليهما يرث ما فيه من طِباع خيِّرة أو شرّيرة، وهي رؤية تقليديّة ترى الإنسان نِتاج العائلة، والعائلة جزء من السياق المُجتمعي، وليس ابناً للتجربة الشخصيّة واختياراته وانحيازه الفردي. فالابن، وخصمه في ما بعد، ليسا سوى أدوات في يد القدر العائلي، والعرق الطيّب أو الدسّاس. إنّهما من دون إرادة في الاختيار، هُما ابنان لتجارب غيرهما، خلَّفا الرؤية القديمة البدائيّة التي تعتبر الإنسان الفرد صورة لأبيه، والأخير صورة لأبيه، وهكذا دواليك في سلسلة لا متناهية من عمليّات التوارث الجبري. وفي خطاب لوركا كثيراً ما يقع المتلقّي على شيوع نزعة التحاور بين القاهر والمقهور، القامع والمقموع، ما يعني أنّنا أمام خطابات مُتداخلة، أو أصوات مُتباينة يشملها الخطاب المسرحي، وتقف كلّ ذات من الاستعارة موقفاً مُغايراً بطبيعة الدور الذي تلعبه الشخوص أو موضعها من لعبة القمع والغلبة.

وإذ يتوجّه الخطاب في بنيته إلى قارئ أو مقول له أو مُرسَل إليه، فإنّه لا بدّ من التمييز بين المقول له المباشر والمقول له غير المباشر، والمقول له، بحسب معاجم السرديّات، كمفهوم يتنزّل في نطاق الخطاب باعتباره عملاً ينجزه قائل يتوجّه به إلى مُخاطَب يتلقّى ما يُقال، ولا يُمكن تصوّر قول من دونه، كما لا يُمكن أن تتشكّل صورة للقائل المتكلّم في قوله من دون أن يرسم صورة لطرف آخر يتوجّه إليه بالكلام. وخطاب الأمّ هنا ليس موجَّهاً إلى والد العروس أو متلقّي العرض فحسب، لكنّها توجّهه إلى نفسها أيضاً في عمليّة تأكيد على جرم عائلة ليوناردو الأوّل في حقّ زوجها وابنها. إنّها استعادة للتأكيد على ضرورة الثأر والانتقام من أولئك الأشرار على الرّغم من كراهيّة الأمّ للدمّ والموت، لكنّ العقاب هنا من وجهة نظرها مستحقّ وضروري كقصاص عادل لحقّ الأنساق المجتمعيّة التي تهتّكت.

من الضروري هنا أن نؤكّد أنّه من خلال الاستعارات والأبنية اللغويّة تتشكّل الأنساق الثقافيّة، ويتمظهر النسق الثقافي في الخطابات الحامِلة للأنساق، في شكلَين، الأول مُعلَن أو ظاهر والآخر مُضمَر أو خفيّ، وهما دوماً متلازمان داخل الخطابات على اختلاف أنواعها، كذلك هما مُتناقضان ومُتعارضان، ويُنشآن جدلاً داخل الخطاب، وعلى الباحث أن يستكشف النسقَين ومَوطن التناقض بينهما، الأمر الذي يُمكن استكشافه في “عرس الدمّ”. ما يعني الوصول إلى ما يُمكن تسميته المعنى الجوهري، أو الرسالة المشفّرة، لا المعنى السطحي الظاهر، ويُمكن الكشف عن الإيديولوجيا الكامنة وراء الخطاب، والتي من خلالها يتأسَّس للاتّصال الجمعي، ويُأطّر لنظام الخطاب داخل الثقافة.

فالنسق المُعلَن هو الانحياز للقيَم المجتمعيّة والاستقرار، فيما يُضمر الخطاب نسقاً آخر وهو مُمارسة التسلّط الاجتماعي باسم المُحافظة على القيَم، وعبر تكريسها وتوثينها، والتعامل معها بوصفها “تابو” غير قابل للنقد أو للتجاوز، ليدافع الخطاب بصورة مُضمرة عن السائد والمستقرّ بوصفه الأصحّ والأكمل والأتمّ! فأمّ العروس، وعلى الرّغم من جمالها الذي يجعل الجارة تُشبّه وجه الأمّ بوجه القدّيس، فإنّها ليست أهلاً لحبّ الجارة، والسبب؟ “كانت لا تحبّ زوجها”!

ما يعني أنّ مكانة الإنسان تُحدَّد طبقاً لرضاء الرجل في الخطاب، وليس أيّ رجل، وإنّما صاحب الشرعيّة والسلطة معاً، “الزوج” بوصفه المُعادل الرمزي للسلطة السياسيّة، في إطار القيَم العامّة. لا بدّ إذن من إرضاء الأطراف السلطويّة التي تضع في قلبها مركزيّة الرجل، وبدلاً من التفكيك والمُقاومة، وفضْح الأنساق التي أنتجت تلك الثقافة عبر وضعها في محلّ سهام التفكيك والشكّ والنقض، يأتي الخِطاب داعماً على تثبيت المركز المُهيمِن على الفكر الإنساني في المرحلة الرّاهنة على أقلّ تقدير، هو “البطريركيّة”، بوصفه مركزاً إيديولوجيّاً لا يجوز الاقتراب منه.

الانحياز للثقافة البطريركيّة يدفع النساء إلى أن يصبحن حاملات للقيَم الذكوريّة في الخطاب المسرحي للوركا، ويردِّدن استعارات الرجل عن الدمّ والموت، وتتبنّى المرأة المقموعة رؤية واستعارات القامِع، وتصبح الأخيرة هي الحاكِمة والضابطة، نتيجة أنّ العرف صارم ولا يَرحم، وأنّه سيّد كلّ شيء، وهو السيف والمشنقة. إنّه التبنّي الذي يجعل الشخوص تفرّ من مُواجَهة السلطة المجتمعيّة أو تفكّر حتّى في مواجهتها وتعمل على تثبيتها. وخلال المسرحيّة نشهد صراعاً عنيفاً بين الغرائز الجامِحة التي تريد أن تنطلق إلى مداها وقواعد المجتمع التي تريد أن تستقرّ وتتوطّد، والأمّ تصوّر الحقد والسعي نحو الثأر، ولكنّها مع ذلك تريد لابنها أن يتزوّج ويسعد. ووالد العروس يرى في زواج ابنته سبيلاً لمزيدٍ من الأرض والثروة، والخطيب يريد أن ينسى ثأر أبيه وأخيه ويسعى للزواج ليطمئن ويسعد، والعروس تجتهد في أن تهرب من الحبّ الذي يملأ قلبها ويهدِّد كيانها كلّه إلى الزواج من رجل يكفل لها الراحة والهناء. ولكنّ تعطّش الأمّ للانتقام، ورغبة العروس في إرواء حبّ قديم يزداد مع الأيّام عطشاً، هاتان العاطفتان تهدِّدان كلّ الآمال في الهدوء والاستقرار.

في “عرس الدمّ” يضعنا لوركا أمام “حدثٍ عائلي” بتعبير الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، يعتمد تصوّر العائلة اعتماداً يشير إلى أنّ الحدث يُمسرح المشهد العائلي، غير أنّ هذه الدراما العائليّة تتعالق في المسرح التعالق القوي الشديد مع الدمّ. وبتعالقهما، نغدو أمام صراعٍ بين التصوّر الحديث والتصوّر البدائي القديم، تصوّر العائلة التقليديّة المُرتكزة على الارتباط الرسمي وتصوّر “اللّاعائلة” بمنظور القيَم السائدة، الذي يختار خلاله الفرد شريكه بناءً على قناعات العاطفة. وكلّما استقرّت العائلة بالتئام أطرافها استقرّ المعنى. وفي المقابل، ينتثر المعنى ويتبدّد متفرّقاً مُشتّتاً في السبل والدروب الغريبة كلّما انتثرت العائلة وتفرّقت. ولسنا هنا أمام صراع اختيارات العواطف ومنطقيّة العقل، بقدر ما نحن إزاء تصوّرات مُتصارعة من الأنساق المختلفة، بعضها يتّصف بتقليديّته وبعضها الآخر ينحو إلى كَسر النمطيّة والخروج عن السائد.

■ كاتب من مصر

✱✱ ينشر بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي