أفكار وآراء

«مبدأ ترامب» يكسـب .. والعالم يخسـر !!

30 يونيو 2018
30 يونيو 2018

كُوري شَاكي- نيويورك تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

في أثناء انتخابات نصف الفترة سنسمع أفانين من الكلام حول الكيفية التي جعل بها الرئيس أمريكا عظيمة مرة أخرى. لكن هذا الفخر سيكون جعجعة بلا طحن إذا تخلت الولايات المتحدة في نفس الوقت عن النظام العالمي الذي يشكل أعظم إنجازاتها. إن العناية ببستان اجتهد الرجال المكافحون الذين خاضوا الحرب العالمية الثانية في إنشائه أقل تكلفة من السماح بخرابه ثم بنائه من جديد.

ربما بعد عشرات السنين قد نتذكر الأسابيع الأولى من يونيو 2018 كلحظة تحولٍ لتاريخ العالم ونهاية النظام الليبرالي. ففي قمة كندا، للدول السبع الصناعية الكبرى ، رفض ترامب ربط بلده بالنظام العالمي «المرتكز على قواعد» ، والذي بنته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية ، وهدد أوثق حلفائها بحرب تجارية.

لقد أساء ترامب إلى رئيس وزراء كندا ، ثم بعد أيام كال المديح «للديكتاتور» كيم جونج أون. وجدد رغبته في سحب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية ، دون استشارة حلفاء أمريكا في المنطقة. لم يحدث من قبل مثل هذا التجاهل المتسرع لمخاوف حلفاء أمريكا الأمنية ، وكذلك العداء لتبادل تجاري مفيد ، والعزلة المتعمدة للولايات المتحدة. لكن هذه هي السياسة الخارجية لحكومته الأمريكية. ففي وضوح تام، يريد زعيم العالم الحر تدمير التحالفات والعلاقات التجارية والمؤسسات الدولية لنظام قادته أمريكا نفسها طوال 70 عاما. أما رؤية إدارة ترامب البديلة للنظام العالمي فهي التأكيد الفج للقوة الأحادية التي يسميها البعض «أمريكا أولا.» هذا التجاهل العدائي لمصالح البلدان ذات التفكير المماثل ، واللامبالاة بالديموقراطية وحقوق الإنسان ، ورعاية السلطويين هو النظام الجديد الذي يأتي به ترامب. إنه وأقرب مستشاريه يهدمون النظام الليبرالي ، الذي (بقيادة أمريكا) يظل أفضل ضامن لسلمٍ عالمي عرفته البشرية على الإطلاق. نحن ندخل في عهد جديد ومرعب. فالنظام الليبرالي العالمي، حسب وجهة نظر الرئيس ترامب ، نصب واحتيال. وهو يصر على أن الولايات المتحدة تدفع أكثر مما يجب ، وان أصدقائها يخدعونها. ويريد سحب بلاده من تحالفاتها ، وترك شركائها يخدمون أنفسهم ، وصرف أموالها على احتياجاتها الداخلية. تتردد هذه الانتقادات في تزامن مع خوف الأمريكيين أنفسهم من الكيفية التي يتغير بها العالم ، وإخفاق قادتهم في شرح تحولاته ، وتلطيف أثرها على العاملين وأسرهم . فتزايد التفاوت وقلة الفرص المتاحة يشككان في عدالة النظام الحالي. كما دمَّرَت الأخطاء الرهيبة والمكلفة مثل حرب العراق ، والأزمة المالية في عام 2008 ، صدقيةَ الخبراء الذين تمت حمايتهم رغم مسؤوليتهم عن الإخفاقات. ويمتدح حلفاء أمريكا سخاء أنظمة رعايتهم الاجتماعية ويذمون أنظمتنا في حين أنهم ينفقون أقل من أمريكا لحماية بلدانهم. هذه كلها انتقادات معقولة وتساعد على تفسير ظهور ترامب ، وتدهور تقدير النظام الليبرالي . لكن لا يلغي أي منها أهمية الحفاظ على نظام تستفيد منه أمريكا. ما هو هذا النظام بالضبط؟

لقد أسست الولايات المتحدة على أنقاض الحرب العالمية الثانية مجموعة معايير دولية ، رسخت وضعها على رأس نظام عالمي ، محكوم بقواعد تشمل الديموقراطية والالتزام الدائم تجاه بلدان تشاركها قيمها ، وحماية الحلفاء ، وخدمة التجارة الحرة ، وبناء مؤسسات وأنماط سلوك «تشرعن» النفوذ الأمريكي ، بإشراك البلدان الأٌقل نفوذا. هذه النقطة الأخيرة بالغة الأهمية وتجسد عبقرية النظام . فأمريكا تستفيد من مساندتها للآخرين . وتمكن المظلة الأمنية الأمريكية الحكومات الصديقة من جذب الاستثمار والنمو السلمي وتشجع على تشجع التعاون . ويسمح النظام لأمريكا والبلدان الأخرى باقتسام تكاليف الحفاظ على الدفاع المشترك والحركة الحرة للسلع والناس. لم يشهد العالم أبدا قوة عظمى تفرض على نفسها مثل هذه القيود أو السلم والاستقرار الذي جاءت به. نعم لا تنجح أمريكا دائما في ذلك. فكثيرا ما تكون خرقاء وتخفق في التقيد بأيديولوجيتها وتخرق قواعدها. لكن النتائج تتحدث عن نفسها. فقد انقضت 70 سنة منذ آخر حرب للقوى العظمى. حقا خاضت الديموقراطيات حروبا كثيرة ، لكنها لم تقاتل ديموقراطيات أخرى. وتستهدف حروبها بسط الأمن والازدهار ونشر وتعزيز النظام الليبرالي . كذلك تضاعف نمو اقتصاد العالم ، بعد حساب التضخم ، 7 مرات منذ عام 1960. لقد أسست الشعوب والأسواق الحرة معظمَ الدول الأكثر قوة وازدهارا في النظام العالمي . وربطت تلك الدول نفسها بتحالفات ومؤسسات وتجارة مفيدة لكل الأطراف. إن النظام الذي تقوده أمريكا ليس مكلفا (وهذا ما يشكو منه ترامب أساسا) خصوصا عند مقارنته بالبدائل. فحوالي 40% من الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا كان مخصصا للإنفاق العسكري أثناء الحرب العالمية الثانية. أما الآن فتنفق أقل من 4% . وهذا ثمن معقول لوثيقة تأمين مجربة وناجحة. ويرى ترامب أن «الآخرين» سيضطرون إلى عمل «المزيد» في حال قللت أمريكا من مساهمتها. لم يثبت ذلك مع أوثق أصدقائها. فمنذ نهاية الحرب الباردة في 1991 خفضت أمريكا من حجم قواتها المسلحة في أوروبا بحوالي 85%. لكن الأوروبيين (وهذا أكثر دلالة) قلصوا إنفاقهم الدفاعي بعد أن صاروا أكثر ترددا في استخدام القوة العسكرية. فالخطوة الأمريكية لم تفعل شيئا سوى جعل الحلفاء أقل رغبة في العمل العسكري . وربما أن أولئك «الآخرين» الذين «يعملون المزيد» فعلا ليسوا «الآخرين» الذين تقصدهم أمريكا. وما يعملونه قد لا يخدم مصالحها. فروسيا ظلت «تعمل المزيد» في أوروبا منذ تقليص الولايات المتحدة جهودها هناك. كما تفعل «المزيد» في سوريا بسبب «قلة» ما تفعله أمريكا. والصين «تعمل المزيد» في بحر الصين الجنوبي والشرقي. وسيزيد عملها من تعقيد العمليات العسكرية الأمريكية في الدفاع عن الحلفاء والحفاظ على التدفق الحر للتجارة وحتى حماية أراضيها هي نفسها. لقد نشأت داعش جزئيا بسبب ضآلة ما «عملته» الولايات المتحدة لتعزيز المكاسب التي ترتبت عن زيادة قواتها في العراق وأيضا لعدم الاهتمام الكافي بهجمات الحكومة السورية على معارضيها. ولا يفيد أي من ذلك المصالح الأمريكية. والآن تخيلوا ما يحدث في الأجل الطويل. فالصين تثبت ليس فقط عدم تقيدها بقواعد النظام الذي تقوده أمريكا ، ولكن أيضا نيتها كتابة وفرض قواعد جديدة. وفي غياب المعارضة الأمريكية ، ستواصل إجبار الدول الأصغر والأضعف في شرق آسيا على الخضوع وتعزيز سيطرتها على حركة السفن حسبما ترى واشنطن . كما ستستخدم التقنية لمراقبة وتقييد ومعاقبة منتقديها حول العالم. وسيكون النظام العالمي الذي تقوده الصين نظام امتيازات لا حقوق وقوة لا قانون. وسيكون السلام الذي يحققه هذا النظام (إذا نجح في ذلك) باهظ التكلفة. الأرجح أن الولايات المتحدة إذا لم تحافظ على النظام ستجبرها قوة صاعدة في النهاية ، إما على الدفاع عن مصالحها أو السقوط والانهيار. هذا ما حدث في كل انتقال للنفوذ باستثناء حالة بريطانيا والولايات المتحدة ، التي كانت استثناء بسبب تماثلهما الديمقراطي. ومن المستبعد أن يتكرر هذا مع الولايات المتحدة والصين. إن هجوم ترامب على النظام العالمي الليبرالي ، لا يتعلق فقط بالثمن الذي تدفعه الولايات المتحدة. فهو كما يبدو عازم على تدمير علاقات الصداقة والاحترام التي تربط أمريكا وحلفائها. وإذا نجح في ذلك سينظر الناس إلى أمريكا نظرتهم إلى روسيا والصين. وربما لن تختلف أمريكا عنهما. ولن تجد البلدان الأخرى سببا يدفعها إلى الوقوف إلى جانبها. بل ستهتم بمصالحها فقط. رغما عن ذلك قد يتضح أن ترامب محافظ غير ليبرالي على النظام العالمي الليبرالي. فهو بتشكيكه في العديد من العناصر الأساسية للنظام الذي شيدته الولايات المتحدة في أثناء الدمار الذي أعقب الحرب العالمية الثانية ، يجبر الأمريكيين على تخيل عالم لا تعزق فيه الولايات المتحدة «بستان» النظام العالمي، حسب وصف جورج شولتز للسياسة الخارجية. يريد الأمريكيون نظاما عالميا يجعلهم آمنين ومزدهرين. وعندما ينظم ترامب عرضه العسكري في واشنطن هذا الخريف سنسمع دون شك «فخرا» لا ينتهي بالقوة الأمريكية. وفي أثناء انتخابات نصف الفترة سنسمع أفانين من الكلام حول الكيفية التي جعل بها الرئيس أمريكا عظيمة مرة أخرى. لكن هذا الفخر سيكون جعجعة بلا طحن إذا تخلت الولايات المتحدة في نفس الوقت عن النظام العالمي الذي يشكل أعظم إنجازاتها. إن العناية ببستان اجتهد الرجال المكافحون الذين خاضوا الحرب العالمية الثانية في إنشائه أقل تكلفة من السماح بخرابه ثم بنائه من جديد.

■ الكاتبة نائب المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ومؤلفة كتاب «مرور آمن: الانتقال من الهيمنة البريطانية إلى الأمريكية.»