إشراقات

سنن وقوانين النجاح

28 يونيو 2018
28 يونيو 2018

د.صالح بن سعيد الحوسني -

من أهم الدروس والعبر لغزوة أحد استعمال الشورى من قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليعطي كل القيادات الصغيرة والكبيرة درسا في التنظيم والتخطيط وجمع الكلمة؛ فالشورى ليست مجرد استقراء لجميع وجهات النظر وإنما هي إشراك للجماعة في صنع القرار، وكان هذا الدرس رغم صعوبته إعلاما لجميع المسلمين أن هناك سننا وقوانين للنجاح والتفوق على الخصم؛ فمن قصر في شيء منها فليتحمل نتيجة ذلك، كما أن للشباب على مر العصور دورا مهما في نهضات الشعوب وخوض الشدائد والملمات.

شاءت إرادة الله تعالى أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور بعد أن وصلت البشرية إلى حالة مزرية من الانحطاط والضلال والتخلف، فقد كادت سفينة الحياة أن تغرق في بحار من الظلمات والضياع، فكان المنقذ لها شخص النبي الكريم الخاتم -صلوات الله وسلامه عليه- الذي جاء بدعوة الحق إلى الخلق ليخرجهم من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، فجاء النبي إلى هذا البيئة بكل ما فيها من صور الضلال في العقيدة والسلوك والأخلاق والاقتصاد والسياسة وغيرها، ولم تكن مهمته سهلة ميسورة بل كانت بالغة الصعوبة والخطورة، فبدأ يدعو لدين الله تعالى ويستمر سنوات طويلة لم يؤمن به خلالها إلا النفر القليل، وينتبه أعوان الباطل وأهل الشرك لخطورة هذه الدعوة وتزلزل مكانتهم بسببها فقاوموها بكل الوسائل والأساليب، ولما كانت الأوضاع في مكة لا تطاق وطريق الدعوة بها صار شبه مسدود يأمر الله نبيه وأصحابه بالخروج منها والهجرة إلى المدينة المنورة، وهناك في المجتمع الجديد صارت لهم دولة وكيان مستقل يديرونه بأنفسهم وفق منهج الله تعالى.

ولم تنته الأمور عند هذا الحد بل أخذ أهل الباطل يعدون العدة لإجهاض هذه الدولة الوليدة؛ لأنها تشكل خطرا عليهم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يرزأ أهل الباطل في أموالهم في قافلة تجارية قادمة من الشام فتنجو القافلة بعد أن تجهز المشركون لخوض أول صدام مسلح مع المسلمين الذين لم يحسبوا لهذا الأمر حسابه، وكانت المفاجأة التي أدهشت الجميع أن انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكاثرة من المشركين، وذلك في رمضان من السنة الثانية من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيجن جنون أهل الباطل وينفقون أموال تلك القافلة القادمة من الشام في تجهيز الجيش لمحاربة المسلمين، وبعد أن اكتمل تجهيز الجيش خرجت قريش بخيلائها وكبرها لقتال المسلمين، وكان ذلك في السابع من شهر شوال من السنة الثالثة من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبلغ عدد جيش المشركين ثلاثة الآلاف مقاتل، بينما كان عدد الجيش المسلم في حدود سبعمائة مقاتل.

وقد وصلت أنباء خروج جيش المشركين لقتال النبي وأصحابه، فيستشير الرسول الكريم أصحابه حول هذا الأمر الخطير، وذلك هل يخرج من المدينة لملاقاة الجيش الغازي، أم يتحصنون في المدينة وتكون المعركة أشبه بحرب الشوارع التي عادة ما تكون أفضل لمعرفة الطرق وأماكن الحماية والدفاع ونحوها، وكانت آراء الأغلبية خاصة الشباب ممن لم يتمكن من الخروج لبدر أن يخرجوا جهة أحد لملاقاة جيش المشركين، فينصرف النبي من ساعته وينطلق إلى بيته لابسا لأمة الحرب، فيتوجه إليه أولئك الشباب المتحمس وكأنهم شعروا أنهم فرضوا رأيا لا يريده النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما كان من القائد العظيم الذي لا يعرف للتردد طريقا أو مجالا في حياته إلا أن قال: «ما ينبغي لنبي لبس لأمة الحرب أن يضعها...»، وهكذا يمضي النبي -صلى الله عليه وسلم- بقواته المسلمة نحو جبل أحد، فما كان من زعيم المنافقين ابن أبي سلول إلا أن اتخذ من قبول النبي الكريم لرأي غيره ذريعة للرجوع مع نفر من المنافقين، فرجع بعدد غير قليل من الناس ممن تأثروا بقوله.

وفور وصول النبي الكريم مع القوات المسلمة إلى جبل أحد حتى وزع القوات المسلمة في أماكنها المحددة، واتخذ مجموعة من الرماة على هضبة صغيرة لغرض حماية الجيش بقيادة عبدالله بن جبير الأنصاري، وكان من توجيه النبي لهم لزوم أماكنهم وعدم تركها في أي حال كان من النصر أو الخسارة، ويصل جيش المشركين وما هي إلا فترة قصيرة إلا ويضطرب الجيش المشرك ويتزعزع ويقع فيهم القتل، فينشغل بعض المسلمين بجمع الغنائم، فيقع الحماس في أولئك النفر الذين كان يرقبون الأوضاع من أعلى تلك التلة ويهمس بعضهم لبعض حول جدوى بقائهم من عدمه، فما كان من قائدهم إلا أن ذكرهم بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيقع منهم الجدال والأخذ والرد وقائدهم مصر على موقفه فينصرف جمع كبير منهم على غير موافقة من قائدهم لمشاركة بقية الجند في جمع الغنائم، وبعد أن انتبه خالد بن الوليد وكان أحد قادة الكفر حينها لهذه الثغرة فكر راجعا من خلف المسلمين لتنقلب الدائرة على المسلمين، ويقع فيهم القتل فيجندل الكفر سبعين فارسا من فرسانهم وكان أمرا شديدا على المسلمين.

والواقع الذي ينبغي أن نقف معه أن هذه الغزوة رغم واقعها ونهايتها الحزينة كانت درسا فيه من الألطاف الربانية الشيء الكثير ومنها:

- أن مخالفة أمر القيادة فيه خطر كبير، وهو ما وقع فعلا فقد كانت توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم- لأولئك النفر واضحة صريحة، وكان قائد المجموعة عبدالله بن جبير يؤكد على هذا الأمر بشكل واضح، ولكن مع ذلك انطلق بعضهم أو أكثرهم لأنهم لم ينتبهوا لخطر مخالفة أمر القيادة فكانت النتيجة تلك الخسارة غير المتوقعة، واستشهاد نفر من المسلمين منهم عبدالله بن جبير رضي الله عنه.

- استعمال الشورى من قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي كل القيادات الصغيرة والكبيرة درسا في التنظيم والتخطيط وجمع الكلمة، فالشورى ليست مجرد استقراء لجميع وجهات النظر، وإنما هي إشراك للجماعة في صنع القرار فإن وقوع الخطأ في القرارات الأحادية احتماله كبير، وأما القرارات التي تستعرض فيها جميع الاحتمالات فهي غالبا أصوب وأنفع، علاوة على ما يكون من اجتهاد الجميع لتحمل عواقب ذلك القرار الجماعي الذي يشعر كل واحد من المجموع أن له يدا في صنعه، وهو ما يصنع الحماس في نفوس المجموع لتنفيذه.

- كان هذا الدرس رغم صعوبته إعلاما لجميع المسلمين أن هناك سننا وقوانين للنجاح والتفوق على الخصم؛ فمن قصر في شيء منها فليتحمل نتيجة ذلك، فليس كونك مؤمنا أنك تهمل التخطيط والاستعداد واستفراغ الوسع للوصول للنجاح، ولذا كان لازما أن يتعلم المؤمنون هذا الدرس جيدا.

- كان للشباب على مر العصور دور مهم في نهضات الشعوب وخوض الشدائد والملمات، وهو ما حدا بهم للمطالبة بالخروج من المدينة ولقاء المشركين وجها لوجه؛ فلم يكن من شأنهم الكسل أو النكوص عن ملاقاة العدو بل كانت الشهادة وطلب الموت في سبيل الله أقصى أمنياتهم لإعلاء كلمة الله ونشر الخير للعالمين.

- الثبات وعدم التردد من القيادة درس كبير لكل قائد بل لكل إنسان يريد النجاح والوصول لأهدافه، فعندما شعر أولئك النفر الذين رجحت كفتهم في البقاء في المدينة أو الخروج منها وصار أن الأكثرية يتحمسون له نبذ النبي رأيه وسار مع رأي الأغلب منهم، فشعروا أنهم قد غالبوا رأي النبي فجاؤوا إليه معتذرين، فما كان من القائد العظيم إلا أن بين لهم أنه ليس من شأن القيادة التردد والتراجع، وإنما هي عزيمة ماضية كما قال تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)، وكثيرا ما يكون للتردد والتخاذل وعدم اتخاذ المواقف الحاسمة أثرا سيئا في مسيرة الفرد أو المجموع، كما يقول القائل: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا.

وبالجملة فلقد كان لغزوة أحد دروسا في التضحية والصبر والشهادة رغم ألم المصاب على المسلمين فإن المسلمين قد أدركوا ذلك وعايشوه، وانتفعوا به؛ وكثيرا ما تكون الدروس ناجعة ومفيدة رغم ألمها وشدتها.