إشراقات

يوم حنين .. والثبات على اليقين

28 يونيو 2018
28 يونيو 2018

يحيى بن سالم الهاشلي /إمام وخطيب جامع السلطان قابوس بروي -

«بدأ أمر غزوة حنين بعد فتح مكة وتسليم أهلها للنبي -صلى الله عليه وسلم- من ثم بلغه أمر اجتماع قبائل ثقيف وهوازن لحربه؛ وذلك استباقا منهم للمسلمين بالمهاجمة عد فتح مكة بغية استردادها، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- من يتوثق الأمر فجاءه الرسل بأنهم قد خرجوا لقتال المسلمين إلى واد يسمى «حنين» بين مكة والطائف مصطحبين معهم أموالهم وأنعامهم ونساؤهم وأطفالهم بغية العزيمة على القتال وعدم الفرار، فما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن بشر المسلمين بنيل الغنيمة التي ساقها المكابرون معهم».

لقد جعل الله لنا في حوادث التاريخ وسير السابقين معينا لأخذ العبرة والموعظة واستنباط الدروس والحكمة؛ لذا نجد في القرآن سردا لقصص ثبات وصبر الأنبياء والمرسلين، وذكرا لوقائع جهاد وثبات العباد الصالحين يقول الله تعالى في ختام سورة يوسف: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، ومن الأحداث التي خلدها الكتاب العزيز أحداث ووقائع من حياة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- من جهاده وصبره هو وأصحابه الكرام؛ لتكون لأمة الإسلام نبراس هدى ونور وأسوة في حياتهم، ونخص هاهنا بالذكر يوم حنين الذي خلد بالذكر في آيات من سورة التوبة، فنستحضره بعرض مشاهده وذكر العبر والدروس المستفادة منه، إذ قال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).

لقد منّ الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين بفتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وكان ذلك الفتح المبين والنصر العظيم له صداه في جزيرة العرب؛ إذ مكة هي أم القرى عاصمتهم الدينية والاقتصادية، وقد سرى نبأ هذا الفتح في أرجاء الجزيرة معلنا انتصار دين الحق مزلزلا أركان الكفر ومحفزا لغالب القبائل للدخول في الإسلام رغبة ورهبة، وهذا ما بشر به تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين في سورة النصر (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، ولكن بقيت هناك بعض القبائل التي آثرت مكابرة الحق والعدول عن سبيل الرشد، وذلك في حكمة الله ليقضي أمرا كان مفعولا، ومن هذه القبائل المكابرة كانت ثقيف وهوازن، وهم أهل الطائف وما حولها، والطائف كانت كبرى حواضر العرب في الحجاز بعد مكة التي تعد نفسها المنافس لمكة، وقد سعت لذلك حتى دينيا من خلال اتخاذ بيت لصنم اللات مناكفة لأهل مكة، بل كان من أهلها من أرشد أبرهة الحبشي صاحب الفيل لطريق مكة عندما قصد هدم الكعبة، لذا أرادوا تحقيق ما لم تحققه قريش بهزيمة المسلمين.

بدأ أمر غزوة حنين بعد فتح مكة وتسليم أهلها للنبي -صلى الله عليه وسلم- من ثم بلغه أمر اجتماع قبائل ثقيف وهوازن لحربه، وذلك استباقا منهم للمسلمين بالمهاجمة بعد فتح مكة عاصمة العرب بغيت استردادها، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- من يتوثق الأمر فجاءه الرسل بأنهم قد خرجوا لقتال المسلمين إلى واد يسمى «حنين» بين مكة والطائف مصطحبين معهم أموالهم وأنعامهم ونساءهم وأطفالهم بغية العزيمة على القتال وعدم الفرار، فما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن بشر المسلمين بنيل الغنيمة التي ساقها المكابرون معهم، فخرج المسلمون للقاء العدو، وكان جيش المسلمين يتكون من جيش الفتح وعدده عشرة آلاف وانضم إليهم ألفان ممن أسلم بعد الفتح، ومنهم ممن لم يرسخ الإيمان في قلوبهم وإنما خرجوا طمعا وحمية، وعند مسير المسلمين كان حال بعضهم العجب بالنفس وهم في جيش جرار، وأنهم قد تم لهم فتح مكة بسهولة ويسر، فكان لسان حالهم كما قال قائلهم: (لن نغلب اليوم من قلة)، متناسين أن النصر والتمكين من الله وأنهم عندما كانوا قلة في العدد والعدة كان الله هو ناصرهم على الكثرة، وهنا جاءهم التقدير الإلهي والدرس الأول في التوكل على الله لا فقط التوكل على الأسباب من عدد وعتاد؛ فإن الله هو مسبب الأسباب؛ لذا جاء ذكر هذه الغزوة في القرآن في معرض التذكير بهذه السنة الإلهية الثابتة ليكون تذكرة للمسلمين طول الدهر، وهم يخوضون معارك نصرة الحق أن النصر من عند الله، فكانت بداية المعركة كما وصف آي القرآن (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)، إذ كمن المشركون للمسلمين في أطراف الوادي ورموهم بالنبل فما كان إلا أن انكشف المغترون وآثروا النجاة فولوا مدبرين وتحدث ضعاف الإيمان والشاكون ببطلان سحر الإسلام وزوال دولته، فكانت هذه هي لحظة الصدق وميزان اليقين؛ إذ وقف القائد المسدد والنبي المؤيد -صلوات الله وسلامه عليه- قائلا: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) فيلتف حوله القريب من أهل الثبات كعمه العباس، فيطلب منه أن ينادي أهل اليقين بالله من المهاجرين والأنصار فيناديهم بنداءات الإيمان: يا معشر الأنصار، يا أصحاب شجرة الرضوان يا أصحاب سورة البقرة، فما كان منهم إلا أن لبوا النداء وسط المعمعة، وألتف جند الحق حول القائد لتكون جولة أخرى لانتصار الحق على الباطل بعد أن تعلموا الدرس أن الله هو الناصر، وأن الأسباب ليست تغنيهم دون عون الله وتسديده، فما لبث أن تحولت الهزيمة إلى نصر للمسلمين وإذلال للكافرين وقطع الشك باليقين للمرجفين، كما وصف الله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).

ولم تنته المعركة هاهنا؛ إذ أراد الله تعالى أن يقطع دابر الكفر ويعز عباده، فكان أن ولوا مدبرين هاربين تاركين ما ساقوا معهم من أموال وأنعام وأهل وذرية، فغنم المسلمون ما ترك القوم خلفهم، وكان في ذلك حكمة إلهية أخرى إذ في ذلك إضعاف لمن جاء متكبرا مفاخرا وكسر لشوكته وإنذار لمن يفكر بعداء المسلمين بسوء المنقلب، كما أن في الغنيمة نوع ترغيب لمن بقي متشككا ومترددا في قبول الإسلام إذ شاهد أن العز والغنى يناله من دخل هذا الدين، وهذا إنما مرده اختلاف النفوس وما جبلت عليه الطبائع من حب الرئاسة والمال؛ لذا عمد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كثير من الغنائم ووزعها على حديثي الإسلام من الرؤساء في أقوامهم استمالة لهم وتحبيبا لهم في الدين؛ ولذلك عندما ظن بعض الصحابة أن العطاء الأكبر ذهب لأولئك وهم لم يقدموا شيئا نصرة لله ورسوله ووجدوا في أنفسهم حزنا، فجمعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر لهم سبب تألفه القوم بالعطاء ترغيبا لهم في دخول الإسلام، وقال لهم: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا أَقْوَامًا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ، أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ سَلَكُوا شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارَ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، وَلَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، الأَنْصَارُ عَيْبَتِي وَكَرِشِي، الأنصار شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ». فبكوا وقَالُوا: رَضِينَا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ قَسْمًا)، وكان هذا درس آخر للمسلمين في عدم النظر إلى متاع الدنيا الزائل وأن يخلصوا أعمالهم لله بغية ثوابه ورضاه، كما ظهرت سماحة الإسلام بعد النصر برد النبي -صلى الله عليه وسلم- سبي هوازن وثقيف إليهم، فكان ذلك داعيا لدخولهم في دين الله، وكانت غزوة حنين درسا للمسلمين في طلب نصر الله بالتوكل عليه والثبات على اليقين، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).