1375306
1375306
المنوعات

كريم مروة وطريق التغيير الذي لا ينتهي

27 يونيو 2018
27 يونيو 2018

رفيف رضا صيداوي -

في كتابين صادرين حديثا عن الدار العربية للعلوم - ناشرون يتابع المفكر اللبناني المعروف كريم مروة صوغ مشروعه التغييري الذي أثار- ولما يزل- الكثير من النقد، سواء من كادرات اليسار في لبنان والعالم العربي، وتحديدا الحزب الشيوعي، أم من كادرات وشخصيات فكرية وثقافية وسياسية لبنانية وعربية من خارج اليسار والحزب كليهما، ولا سيما أن ما ينطوي عليه هذا المشروع من أفكار وتطلعات هي بنظر كثيرين لا تمت بصلة إلى الفكر الاشتراكي الذي ناضل الرجل من أجله لأكثر من أربعين عاما.

في سؤال طرح عليه في العام 2002 حول رفضه مبدأ الترشح لمواقع نيابية في لبنان أجاب كريم مروة بأن المراكز السياسية الرسمية لم تغره على الإطلاق، وأنه منذ العام 1968م حتى آخر انتخابات نيابية لبنانية كان يعتذر: «كنت دائما تواقا لأن أكون في موقع أمارس فيه حريتي من دون ضوابط، ولكن مع التزام واضح بالقضية التي أؤمن بها، وبالفكرة التي أعتبرها تستحق أن أتمسك بها» (في كريم مروة، فصول من حواراتي وكتاباتي، وهو أحد الكتابين الصادرين حديثا اللذين تمت الإشارة إليهما في مقدمة هذه المقالة).

أبدى كريم مروة السياسي والمفكر والقيادي البارز في الحزب الشيوعي اللبناني من العام 1952 حتى بدايات العام 1999م تاريخ انعقاد المؤتمر الثامن للحزب، وفي أكثر من مناسبة، حرصا على تحرير مشاريع التغيير المرتبطة بالاشتراكية وبمثيلاتها من كل ما هو يقيني، وجعلها مفتوحة دائما على التحديث والتغيير والتجديد، وذلك منعا لكل ابتذال وترهل وبيروقراطية تؤدي إلى جعل الأحزاب جزءا من الواقع القائم، «بدلا من أن تكون في تصديها للواقع عاملا أساسيا في التغيير نحو الأفضل». وهو إذ لا ينفي طليعية الأحزاب الشيوعية وطليعية نضالاتها وشعاراتها السياسية، وما حققته من إنجازات في المجال السياسي وفي محاولات بناء الدولة بعد الاستقلال، فإنه يلتفت إلى الأخطاء التي وقعت فيها هذه الأحزاب، وأبرزها «عدم واقعية» سياساتها في كثير من الأحيان، فضلا عن تحويل الماركسية إلى «عقيدة جامدة»، وقراءتها «بكثير من الدوغمائية».

ربما كان هذا الإصرار الذي لا ينضب على التغيير هو من الميزات التي تحسب للرجل، سواء أصاب أم أخطأ في محاولة بناء مشروع ديمقراطي جديد لتغيير العالم من ضمن صيغة جديدة للمشروع الاشتراكي، أم في الإفادة من دروس التجربة التاريخية للحركة الاشتراكية.

الطليعيون موجودون في مجتمعاتنا

نظريا، يتحقق التغيير من داخل كل بلد وظروفه بحسب مروة بتوفير الديمقراطية، كضرورة لبناء الدولة، بحيث تشكل الديمقراطية المبدأ التأسيسي لإمكانية السير قدما في المشروع الواقعي للتغيير والنضال، عوضا عن الثورة العالمية الشاملة. ونظريا أيضا، بقي مروة وفيا لماركس ولبعض أفكاره، ولفكرة التغيير وضرورته، وإن كان غير متفائل بالدور الطليعي لليسار. فالطليعيون موجودون في مجتمعاتنا العربية ولكنهم، بحسب تعبيره، مشتتون، ولا بد من العمل على جمعهم لتشكيل بداية حركة التغيير المنشودة.

باختصار، لا يصنف مروة نفسه شيوعيا أو اشتراكيا؛ فهو كما يصف نفسه يساري يستند إلى بعض القيم التي حملها من ماركس؛ أما قوام يساريته، إذا ما جاز التعبير، فيتشكل من الإنسان كقيمة أساسية في الوجود، ومن مصلحة هذا الإنسان، ومن القيم التي ترتبط بتلك القيمة وبهذه المصلحة، فضلا عن الإيمان بأن الأفكار ليست بعقائد وبأن الفكر تاريخي.

مفهوم العروبة لديه

على الصعيد العملي أو العملاني يبدأ التغيير بحسب مروة انطلاقا من عناصر ثلاثة: الحرية، التقدم، العدالة الاجتماعية. وهو إذ يثني على عظمة ماركس المتمثلة في كشفه العلمي لأساس الاستغلال والظلم المتمثلين بالرأسمالية، وبـ«القيمة الزائدة» التي يحصل عليها الرأسمال من العمال والأجراء، إلا أنه يرى للرأسمالية دورا تقدميا في تطوير القوى المنتجة. وباستناده إلى دروس التجربة التاريخية لحركة اليسار والاشتراكية يرى أن ماركس حين توقع احتمال بناء الاشتراكية، توقعه في بلدان رأسمالية متقدمة، وليس في بلدان متخلفة، وأن الدرس الذي يفترض الأخذ به هو حاجة البلدان العربية إلى تراكم رأسمالي يسهم في تطوير القوى المنتجة في إطار العلاقات الرأسمالية، حيث من شأن بناء الدولة الديمقراطية ودولة القانون وما يرافقها من رقابة وحساب، أن يحد من وحشية الرأسمالية الحالية القائمة في البلدان المتقدمة بقدر ما هي قائمة في بلداننا المتخلفة. وفي هذا الصدد يقول مروة: «...مسألة التوحش الرأسمالي ينبغي أن نراها كما هي. فالتوحش والفساد أشد وأفدح بغياب الديمقراطية منه في وجودها. وعليه يجب النضال في سبيل إزالة العوامل التي جعلت هذا التوحش هو الأشد في بلادنا».

ولئن اعتبر مروة أنه غير مؤهل لإيجاد صيغة لتنقية ما أقحم في الدين الإسلامي من قيم ضد الإنسانية، وخصوصا بعد ظاهرة داعش، إلا أنه يدعو كرمى هذا الأمر إلى تكوين كتلة من القوى المستنيرة من المسلمين، من مفكرين ورجال دين، للضغط على المؤسسات الدينية على اختلاف مرجعياتها. يتوق مروة إذن إلى استكمال الإصلاح الديني الذي شهده القرن التاسع عشر في بلداننا؛ لذا ركز في كتابه الثاني «التجديد في الإسلام كالتجديد في الاشتراكية» (الصادر مؤخرا عن ناشرون أيضا) على عدد من رجال الدين المستنيرين مثل السيد محسن الأمين، والشيخ عبد الله العلايلي، والإمام موسى الصدر..إلخ، كنماذج عن رجال الدين الذين يمكن التعويل عليهم في عملية الإصلاح هذه، ولاسيما أنهم وقفوا إلى جانب قوى المجتمع بتياراته المختلفة، حتى المدنية منها، من أجل ترجمة القيم الأساسية للدين الحنيف. فكان استنهاضهم والإضاءة على سيرهم وأفكارهم، إلى جانب استعراض الكتاب للبيان الصادر عن مؤتمر الأزهر الذي نظمته جامعة الأزهر في القاهرة بالاشتراك مع مجلس حكماء المسلمين (من 28 فبراير حتى 1 مارس 2018) حول الحرية والمواطنة..التنوع والتكامل، كمقدمة للتعريف بالإسلام الذي نحتاج إليه.

لقد قاد انهيار التجربة الاشتراكية وما رافق ذلك من تغيرات، سواء على مستوى الأحداث اليومية أم على مستوى المفاهيم النظرية، ولاسيما مقولة انهيار عصر الإيديولوجيات، إلى تشبث كريم مروة بالفكر وبدوره في « تحديد المفاهيم وتجديدها على الدوام، وفي تحديد المهمات التي تختلف من زمن إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى، وفي تحديد أشكال النضال وأدواته (...). فالفكر، كل فكر، هو ابن تاريخه موضوعيا».

أما العروبة لديه فهي ليست باستنهاض الماضي المجيد ولا بإطلاق الشعارات الفارغة من مضامينها، بل بالعمل أولا على استكمال بناء الدولة الوطنية في كل دولة عربية على قاعدة الديمقراطية؛ وثانيا بالعمل بواقعية على قاعدة الديمقراطية واحترام خصوصيات كل بلد في إطار تكامل اقتصادي، تليه تكاملات في سائر المجالات المعبرة عن المصالح المشتركة. وحين «تستكمل هاتان المرحلتان شروطهما يصبح من الممكن البحث عمليا، وبالتدريج، من أجل إقامة الاتحاد العربي، سواء بمشاركة كل الدول العربية، أم بالاتفاق، كمرحلة أولى، بين عدد من الدول الناضجة فيها الشروط لتأسيس هذا الاتحاد». في الختام، وإذا ما أردنا إيجاز مضمون الكتابين الأخيرين لكريم مروة، نقول: إنهما يلخصان مشروعه الثقافي الفكري السياسي. وبغض النظر عن آرائه وتطلعاته التي يلتقي معها كثيرون بقدر ما ينقضها كثيرون أيضا فلا يزال الرجل على الرغم من كبر سنه، تواقا، توق الشباب، إلى إعادة صوغ مشروع التغيير، والعمل على ترجمة مفاعيله على الأرض. لكن ما ينقص هذا المشروع هو توحيد الجهود للنهوض من الأوضاع التي تعاني منها بلداننا.

*ينشر بالتنسيق مع مؤسسة الفكر العربي