الملف السياسي

من أزمة التبادل التجاري إلى أزمة التحالف الأطلسي

26 يونيو 2018
26 يونيو 2018

د. صلاح أبونار -

الخدعة انكشفت ولا مزيد. وبعدها بساعات قليلة ومن الطائرة المتجهة إلى سنغافورة حيث عقدت القمة الأمريكية-الكورية الشمالية، أعاد بولتون مستشارة الأمن القومي إرسال نفس الرسالة في تغريدة: «مؤتمر آخر لمجموعة السبع حيث تتخيل بعض الدول أن أمريكا ستكون دائما بنكهم الخاص. الرئيس جعلها واضحة اليوم: لا مزيد». ومع سحب ترامب غير المبرر لموافقته على بيان القمة الختامي، في شكل تغريدة اطلقها من نفس الطائرة، انطلقت أزمة في العلاقات الأطلسية تنذر بعواقب وخيمة.

تعاني أمريكا بالفعل عجزا في ميزانها التجاري العام يصل إلى نحو 800 بليون دولار. ولكن سيكون من الخطأ رد أزمة أمريكا مع أوروبا وكندا حصرا إلى هذا العجز، ذلك أننا سنجد لهذه الأزمة متغيرات هيكلية وعميقة داخل مجال العلاقات الأطلسية، بمعزل عن العلاقات التجارية وساهمت في تعميق الأزمة التجارية وإكسابها الحدة التي بدت بها. ولكن الأزمة التجارية أيضا جاءت لتؤجج نيران أزمة العلاقات الأطلسية. والآن يشعر الكثير من الساسة والمراقبين بتوجس تجاه قمة الناتو القادمة في بروكسل11-12 يوليو القادم، ويتساءلون اذا كان العجز الذي تبدى في قمة كويبك سيعاود الظهور في بروكسل؟ وضاعف التوجس عدة عوامل. منها أن ملف الناتو والتوزيع المتوازن لنفقاته، كان مطروحا طرحا حادا من جانب حملة ترامب الانتخابية حتى تغريداته في طريقه إلى سنغافورة. ومنها انه احد الملفات الأوروبية الأكثر إلحاحا الآن. ففي ظل توسعية بوتين استعاد ملف الأمن الأوروبي أهميته بعد تراجعه في أعقاب نهاية الحرب الباردة وسنوات الكمون الروسي، ليحتل الصدارة مع التدخل الروسي في أوكرانيا وضم القرم. ومنها نزعة ترامب للتخفف من الالتزامات التعاهدية الدولية، المصحوبة بقرارات فجائية مثل القمة الكورية. وهي نزعة خلقت توجسا سياسيا، ضاعفه الشعور بصعوبة التنبؤ بسلوكه، وهو ما نجده حاضرا لدى قادة مثل ميركل.

تجسدت حدة الأزمة واستقطبت اهتمام العالم منذ بدايات رئاسة ترامب، ففي مواقف أوروبا وأمريكا المتناقضة تجاه عدة قضايا، أهمها: اتفاقية المناخ وسياسات إصلاح الأمم المتحدة ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس. غير أن كل تلك الخلافات، ليست سوى التجليات الحادة للازمة، وليست عواملها المشكلة لها.

نجد المتغيرات الصانعة لتلك الأزمة الأطلسية داخل عدة عوامل. أولها ميراث أوروبا السلبي من سنوات الحرب الباردة. تجسد الوجه السياسي لهذا الميراث في التراجع الكبير للدور الأوروبي في إدارة الأزمات الدولية، وضمور استقلاليته في حدود ممارسته، بالتوازي مع التسليم التام بالقيادة الأمريكية للمعسكر الغربي في سنوات الحرب الباردة ثم بعد نهايتها. و بعد نهاية الحرب الباردة تسعى لتخطي هذا الوضع. غير أنها تصطدم بعوامل أعاقت تقدمها. قلة الموارد والإمكانيات، وضعف انتشار وجودها العسكري على امتداد العالم بالمقارنة بأمريكا، واتساع قاعدة النظم السياسية المتحالفة مع أمريكا، وعدم قدرتها على تحمل المخاطرة والخسائر، والتمفصل العضوي بين التوازنات والصراعات الإقليمية الأساسية والدور الأمريكي وموارده السياسية. علاوة على انهماكها في بناء مشروعها الاندماجي، وضعف القيادات وعجزها عن التعامل مع التحديات.

وكان لهذا الميراث بعده العسكري. كانت واشنطن هي التي تحملت مسؤولية سباق تسلح الحرب الباردة، ولم تتحمل أوروبا سوى القليل. وعندما انتهت الحرب واجهت ميراثها العسكري. في نتائجه العامة تجسد هذا الميراث، في ضعف الإمكانيات العسكرية بالمقارنة بالولايات المتحدة، وتحديدا مجال القوة النووية والصواريخ، وانتشار القوى البحرية والقواعد العسكرية على امتداد العالم، والأخطر القاعدة العلمية والصناعية المساندة، وبالتحديد قاعدة أبحاث الفضاء بتأثيراتها العميقة على بقية قطاعات القوة العسكرية. وفي اصله المكون تجسد نفس الميراث في انخفاض إنفاق أوروبا العسكري بالمقارنة بالإنفاق الأمريكي، وتلك ظاهرة قديمة كانت محلا لتسامح أمريكي نسبي حتى جاء ترامب ليجعلها بؤرة مشاكل التحالف الأطلسي ومادة لنقد متواصل. في 2017 وصلت نسبة الإنفاق العسكري الأمريكي من الناتج القومي الإجمالي إلى 3.6%، بينما لم تتعد نسب كندا 1.3% وإيطاليا 1.1% وبلجيكا وأسبانيا 0.9% وفرنسا1.8% وبريطانيا2.1% وحققت اليونان اعلي نسبة 2.4%، وتراوحت نسب سلوفاكيا وكرواتيا وبلغاريا والبرتغال والدنمارك وتركيا وهولندا والمجر والبانيا بين 1.1% و 1.5%.

عايشت أوروبا هذا الميراث العسكري لفترة طويلة معايشة سلمية، لكنها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة أرغمت على مواجهته مواجهة سافرة. ففي 2014 انفجرت أزمة القرم وأوكرانيا، وبعدها تصاعد التدخل الروسي في السياسات الداخلية الأوروبية. وأدركت انقضاء سنوات عزلة الدب الروسي، وان الحسابات الأمنية الأوروبية لم تعد كما كانت. وفي أول عام 2017 وفد رئيس جديد واستثنائي إلى البيت الأبيض، يحمل معه نزعة سياسية خارجية انفرادية، وينظر للتحالف الأطلسي من منظور منفعته الاقتصادية اكثر من منظور المهام الاستراتيجية. وهكذا أدركت أن الضمانة الأمنية الأمريكية لم تعد صالحة لمواصلة التعويل عليها، والتوزيع غير المتوازن لنفقات الدفاع الأطلسي لم يعد قابلا للاستمرار.

وشرعت أوروبا في إصلاح الوضع فالتزمت منذ 2014 في إطار الناتو، برفع نسبة إنفاقها الدفاعي إلى 2% تدريجيا، ومن أواخر 2017 أطلقت مشروع بيسكو للتعاون الدفاعي الأوروبي، ويتبني حاليا 17 مشروعا في مجالات مثل التدريب والرقابة البحرية. إلا أن معدل التقدم لا يزال بطيئا، وهكذا يواجه الأوروبيون مأزقا. فبعد دفعهم للرد على التصعيد التجاري الأمريكي بتصعيد مضاد، اضحوا يخشون أن يأتي الرد الأمريكي على جبهة الناتو في بروكسل، الأمر الذي قد يفجر العلاقات الأطلسية ومعها الضمان الدفاعي الأمريكي.

يأتي العامل الثاني الصانع للازمة الأطلسية من الداخل الأمريكي، ويمكننا داخله أن نميز بين ثلاثة مصادر متفاعلة. سنجد الأول في النزعة الشعبوية الموجهة لصانع القرار، والتي تفسر ممارسات عديدة ساهمت في تصعيد الأزمة.

منها المفاهيم واللغة الشعبوية المستخدمة في تبرير القرارات وإكسابها الشرعية، الزاخرة بمصطلحات: العمال والفلاحين والشعب والأمن القومي ونهب أمريكا والأعداء المتربصين بها. ومنها نزعة العداء للمؤسسات السياسية والمتخصصة. فالخبراء داخلها غير جديرين بالثقة، ومؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية لا تحظ بالتقدير، والاتفاقيات الدولية من السهل الخروج عنها، والاتحاد الأوروبي ليس محلا للإعجاب والميول الانفصالية تعامل بتعاطف، و(النافتا) يجب إعادة التفاوض حولها ليصبح من حقنا هجرها إن لم تحظ برضانا، وروسيا يجب أن تعود إلى عضوية مجموعة السبع الصناعية الكبار رغم ما فعلته وتدخلها في الانتخابات الأوروبية.

وسنجد المصدر الثاني للازمة في تدهور مؤسسات وآليات صنع القرار والذي يتجلى في عدة ظواهر. منها الانقسامات داخل النواة السياسية وبينها والبيروقراطية، كما يمثله استخدام ثلاثة مستشارين للأمن القومي ووزيرين للخارجية في اقل من عامين.

ومنها تآكل قدرة مؤسسات الخدمة المدنية على المشاركة في صنع القرار. ويبدو هذا واضحا في وزارة الخارجية، فحتى الآن هناك مناصب كثيرة لا تزال شاغرة، والأمر نفسه ينطبق بدرجات متفاوتة على بقية الوزارات. ومنها روح التربص بين خبراء مؤسسات الدولة والبيت الأبيض، فالخبراء المهنيون لا يشعرون بالثقة في الوافدين الجدد على البيت الأبيض، والوافدون يرون في الخبراء مخلفات عصر مضى وفكر خاطئ. ومنها تآكل المعايير الحاكمة للعلاقات بين المال والسلطة وبين العائلة والحكم.

والخلاصة أن المؤسسات تعاني من تناقضات وفجوات تنظيمية، الأمر الذي يؤثر سلبا علي أدائها في الأزمات و قدرتها على ترشيد القرارات. ودون هذه الفجوة لن يمكننا تفسير الطريقة التي تقرر بها سحب الموافقة على بيان القمة الختامي في كيبيك، بقرار يؤخذ على عجل ويعلن في تغريدة ولا يقدم تفسيرا مقنعا. ونفس الفجوة تفسر كيف أن مراكز بحثية مرموقة ووثيقة الصلة بالإدارة مثل معهد بروكينجز، لن نجد داخلها خلال أزمة قمة السبع الصناعية مدافعا عن السياسات الرسمية.

وسنجد المصدر الثالث للأزمة في بعض مكونات، الرؤية المسيطرة على عملية صنع القرار الخارجي. منها سيطرة مفهوم التنافس والصراع علي إدارة السياسة الخارجية. ليس هناك مجتمع دولي، بل فضاء سياسي يتنافس فيه اللاعبون السياسيون ويشتبكون.

وداخل هذا الفضاء التنافسي من الطبيعي أن تتراجع قيمة المنظمات، فتصبح مجالا للتنافس وليس لبناء إجماع دولي وفقا لمعايير القانون الدولي. وإدارة الأزمات الدولية تماثل سمات الإدارة التجارية، فيسيطر مفهوم الصفقة، ويجري ربط مباشر بين تكلفة المصلحة الاقتصادية وجدوى التحالف السياسي، وتقييم التزامات التعاهدات العامة المنظمة للمجالات الدولية، بعائدها الخاص والمباشر وليس بعائدها العام والاستراتيجي.