أفكار وآراء

عودة روسيا من باب كأس العالم

24 يونيو 2018
24 يونيو 2018

أ.د. حسني نصر -

تبدو السياسة حاضرة في كل شيء حولنا بما في ذلك البطولات الرياضية العالمية الكبرى التي تحولت إلى ساحة لمعارك اقتصادية وسياسية غير معلن عنها. لا يمكن فصل المنافسات الكروية التي تجرى حاليا في الملاعب الروسية في إطار بطولة كأس العالم لكرة القدم عن الصراعات السياسية التي يشهدها العالم في أكثر من مكان على سطح الكرة الأرضية، خاصة وأنها تعيد إلى الأذهان ما كان يعرف باسم الحرب الباردة التي استمرت عقودا من الزمن بين المعسكرين الشرقي والغربي، وأطلت برأسها مرة أخرى في صورة حرب باردة جديدة.

ورغم حالة المتعة التي أحدثها كأس العالم لدى ملايين المشاهدين والمتابعين في أرجاء المعمورة، فإن كل الأطراف المشاركة، وربما بعض الأطراف الأخرى غير المشاركة، كان لها نصيب في العائدات الاقتصادية والسياسية للبطولة العالمية التي تلعب دورا بارزا في تقديري في إعادة تشكيل المشهد العالمي الملتبس، وأبرزها بالتأكيد تصدر الدب الروسي للمشهد العالمي وبدء عودة القوة الناعمة الروسية.

وقبل أن نشرع في شرح الأبعاد السياسية التي كشفت عنها مباريات المونديال، من الضروري أن نشير إلى أن البطولة الحالية عقدت في أجواء عالمية مشحونة بالصراعات الأقرب إلى الحروب غير المعلنة، أبرزها الصراع الروسي- الغرب أمريكي سواء على خلفية العقوبات الموقعة على روسيا منذ العام 2014 بعد ضمها لشبه جزيرة القرم في أوكرانيا، والتدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة لصالح ترامب، والخلاف مع المملكة المتحدة اثر مقتل الجاسوس الروسي السابق في لندن، والصراع الصامت في نقاط التماس الملتهبة في سوريا واليمن وفي مجلس الأمن الدولي.

وقد أضافت الخلافات التجارية التي سبقت انطلاق كأس العالم صراعا دوليا جديدا بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين كشف عن نفسه في قمة الدول السبع الصناعية الكبري التي عقدت في كندا، إلى جانب الصراع التجاري المزمن بين الولايات المتحدة والصين الذي تصاعدت حدته في الأيام الأخيرة.

وبصرف النظر عن العوائد الاقتصادية التي جنتها الدولة المنظمة والدول المشاركة وشركات البث التلفزيوني والمؤسسات الإعلامية الكبيرة في العالم، فان ما يعنينا في هذا المقال هي تلك العوائد السياسية التي رسختها الاستضافة الروسية للمونديال والمشاركة العالمية فيه. من الطبيعي أن يكون أول وأكثر المستفيدين سياسيا من كأس العالم هي الدولة المنظمة. ولذلك تتسابق دول العالم علي التنافس لنيل شرف تنظيم هذه البطولة كل أربع سنوات. وهنا تلعب التكتلات العالمية دورا مهما في منح حق التنظيم لدولة على حساب دول أخرى.

وقد شاهدنا قبل انطلاق كأس العالم بساعات كيف صوتت الغالبية العظمي من كونجرس الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا»، ومن بينها دول عربية عديدة، لصالح الملف الأمريكي- الكندي- المكسيكي المشترك على حساب الملف العربي المغربي لاستضافة كأس العالم في العام 2026. يمكن القول إن روسيا نجحت في هذه البطولة وإلى حد كبير في تسويق صورة ذهنية جديدة لها كدولة عظمى تمتلك بنية تحتية حديثة ومتطورة، بعد أن ظلت صورتها لفترة طويلة في الإعلام الدولي و لدى الرأي العام العالمي هي صورة الدولة التي أنهكتها الشيوعية، والتي لم تستطع رغم إمكاناتها الكبيرة استعادة مكانتها العالمية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. صحيح أن التدخل الروسي في الشؤون العالمية شهد زخما كبيرا في السنوات الأخيرة خاصة بعد تدخلها في الصراع الأوكراني والحرب الأهلية السورية، ولكن من المتوقع في ضوء نجاحها في تنظيم كأس العالم أن يزيد التأثير الروسي في السياسة العالمية في السنوات القادمة خاصة مع تراجع الحلف الغرب أمريكي بسبب سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القائمة على مبدأ «أمريكا أولا». لقد برهنت روسيا وبشكل عملي على أن الرياضة يمكن أن تكون قاطرة للتنمية ووسيلة للعودة إلى المشهد العالمي. فمنذ إسناد تنظيم كأس العالم الحالية لها في العام 2010 على حساب ملف إنجلترا، والملف المشترك الذي ضم البرتغال وإسبانيا وكذلك الملف المشترك بين بلجيكا وهولندا، استطاعت روسيا رغم اتساع مساحتها التي تصل إلى نحو ثمن مساحة العالم، أن تفي بمتطلبات التنظيم التي تجاوزت كلفتها المالية 14 بليون دولار لتصبح الكلفة الأعلى في تاريخها، كما استطاعت أن تحول المناسبة العالمية إلى فرصة للخروج من عزلتها الدولية وتنمية بنيتها التحتية خاصة في المدن الإحدى عشرة التي تستضيف مباريات البطولة. يكفى أن نشير هنا إلى نجاح روسيا في بناء وتهيئة 12 ملعبا للبطولة تضم مجتمعة أكثر من نصف مليون مقعد بالإضافة إلى 96 ملعبا للتدريب من المتوقع أن يتم استخدامها في أغراض رياضية متعددة بعد المونديال. وشهدت المطارات والمستشفيات ومحطات الطاقة والفنادق زيادة كبيرة بما يعود بالنفع الكبير علي الدولة والشعب بعد كأس العالم. إلى جانب ذلك فقد وفرت المناسبة أكثر من مائة ألف وظيفة، ورفعت مستوى الخدمات السياحية في المدن المستضيفة بنسبة 71 بالمائة.

بانتهاء كأس العالم في منتصف الشهر القادم ستكون روسيا قد استعادت جزءًا كبيرا من قوتها الناعمة في العالم. صحيح أنها سبق أن نجحت في استضافة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي في العام 2014، ولكن تأثير كأس العالم لكرة القدم على صورة روسيا سيكون أكبر بالتأكيد. أضف إلى ذلك أن الحرب الباردة الجديدة التي أعقبت أولمبياد سوتشي وتمثلت شرارتها في التدخل الروسي في أوكرانيا كانت تحتاج إلى عمل كبير من عينة استضافة كأس العالم لتصحيح الصورة الذهنية العالمية عن روسيا الجديدة التي يحاول الرئيس بوتين في فترته الرئاسية الرابعة والأخيرة أن يصدرها للعالم. ويكفي أن يروي نحو مليوني زائر لروسيا خلال كأس العالم تجاربهم الإيجابية عبر شبكات التواصل الاجتماعي لأصدقائهم وعائلاتهم لكي يحدث التغيير المطلوب في الصورة السلبية التي دأب الإعلام الغربي علي تصديرها عن روسيا باعتبارها أرضا للغضب والفقر والديكتاتورية، ودولة تسمم الناس في شوارع أوروبا وتقتل المدنيين في سوريا وتسقط الطائرات المدنية دون رحمة.

والواقع أن الصورة الذهنية المخيفة التي كان يروجها الإعلام الغربي ليخدم مصالح حكوماته لتأييد قراراتها ضد روسيا، لن تكون قادرة على الصمود أكثر بعد الصورة الإيجابية التي رسخها كأس العالم لها. إذ سرعان ما اكتشف العالم أن ما كان ينقل له عن روسيا في نصف القرن الأخير لم يكن صحيحا كله، وأن روسيا دولة كبيرة وغنية، وأن شعبها يضم أناسا طبيعيين مثلنا، اختار أن يعيش في ظل ديمقراطية بمقاييسه هو، تركز على الاستثمار في التنمية بجميع مجالاتها.

لقد فتح كأس العالم أبواب الأمل أمام الروس للعودة بقوة إلى المشهد العالمي واستعادة القوة الناعمة الروسية التي نجحت في بعض الأوقات في قسمة العالم إلى معسكرين متباعدين فكريا، فهل ننتظر انقساما جديدا بعد كأس العالم تلعب فيه روسيا مرة أخرى دور القوة العظمى الثانية؟