إشراقات

أثر الهوى على حياة الإنسان وماله

21 يونيو 2018
21 يونيو 2018

ناصر بن عبدالله الصوافي -

لقد فطر الله تعالى الخلائق على حب الشهوات والملذات وأودع في النفوس الميل إليها فهو سبحانه قد خلق لهذه النفوس كل شيء جميل وحبب إليها كل شيء حسن فقال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ).

ولكن مع ذلك فإن هذه الفطرة التي أودعها الله تعالى في النفوس لا بد أن تكون وفق منهج الله تعالى ووفق ضوابط الشرع لكي يرتقي الإنسان بهذه الشهوات والملذات إلى أعلى الدرجات وينال بها أعظم الحسنات وأكثرها ولو تمعنا في كل الشهوات والملذات التي خلقها الله تعالى للإنسان لوجدنا أن الحصول عليها لا بد أن يمر بطريقين لا ثالث لهما أما بطريق محرم وأما بطريق حلال مشروع فهناك قنوات نظيفة وسليمة ومأمونة للحصول على الشهوات والملذات وإشباع رغبات النفس منها ولو اتبعت هذه الطرق في إشباع رغباتك وشهواتك فأنت ترتقي بها إلى رب البريات وتنال بها أعلى الدرجات ولكن أن سلكت مسلكا مخالفا لحدود الشرع وطريق الهدى فإنها تهوي بك إلى دركات الهاوية وهي جهنم والعياذ بالله كما قال سبحانه: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) .. وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾.

إذن هوى النفس وميولها يجب أن يكون وفق منهج الله وطريقه القويم وكما قيل في تعريف الهوى هو ميل النفس إلى الأشياء وغلبة الحب القلبي عليها أو هو ما تهواه النفس وتحبه وكلها معان دقيقة تأخذ منحنى الصعود والهبوط وفق المنهج الذي يتبعه الإنسان في هواه وميله وحبه..

وأغلب المعاني التي ذكرها القرآن عن الهوى مذمومة ممقوتة لأنها كلها أو معظمها تأتي بمعان سلبية خارجة عن نطاق الشرع الحنيف والهدي الشريف وقد جاء التحذير من اتباع الهوى في معظم الآيات القرآنية لان ضبط الغرائز وشهوات النفس من الأمور الصعبة بل المعقدة في حياة الإنسان ولن يستطيع الإنسان ضبطها أو الحد من إخطارها إلا إذا كان من المؤمنين المتقين الثابتين على الحق والهدى والصراط المستقيم وهم قلة نادرة كما قال سبحانه وقليل من عبادي الشكور.

ودعونا نذكر مثالا يوضح كيف أن الهوى يهوي بصاحبه ويؤدي به إلى ظلم نفسه وهلاكها رغم انه يعرف الحق والحقيقة التي تؤدي به إلى النهاية المؤلمة فالطبيب مثلا تراه ينصح مرضاه واتباعه وممن يعالجهم ويطببهم بان يبتعدوا عن التدخين لأنه خطير وبه من الأضرار الصحية على الجسد ما لا يعد ولا يحصى ولكنه في الوقت نفسه نرى بعضا من هؤلاء الأطباء يمارسون هذه العادة ويدخنون رغم معرفتهم بحقيقة التدخين وذلك استجابة لرغبة النفس وهواها وعدم السيطرة على رغباتها والعجز امام حبها لهذه الآفة الخطيرة وهذا فيه انحراف عن منهج الله وهذا مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) فمثل هذا الطبيب اصبح عاجزا أمام هوى النفس ورغباتها واستجاب لشهواتها وملذاتها التي رغبت فيها وحقق لها أمنيتها بما ارتكبه من أخطاء يعرف هو قبل غيره بانها خطيرة وانها تؤدي إلى الهلاك والدمار وتقضي على صحة الإنسان وعافيته ..

إذن أكبر عدو للإنسان هو هواه وقد قيل إن اتباع الهوى هوان ومن هوى فقد هوى والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ .

والهوى بمعنى الميل عن الحق أن وقع فيه العالم قاده إلى التكبر والتعالي وان وقع في الحاكم قاده إلى الظلم والبغي وعدم العدل وان وقع للفقيه والعابد قاده إلى الرياء والسمعة وهكذا كل أمور الحياة وشؤونها أن اتبعت الهوى فإنها تضل عن منهج الله وتحيد عن الطريق الحق قال عز وجل: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾.

قال قتادة رحمه الله تعالى: إن الرجل إذا كان كلما هوي شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى، فقد اتخذ إلهه هواه.

فالإنسان إذا هوى شيئا ومالت إليه نفسه ورغبته ونفذه في الحال وحقق لنفسه مرادها دون النظر إلى شرع الله وحدوده فهذا يعبد الهوى والشهوة ولا شك بانها ستؤدي به إلى الظلم والجور وتقوده إلى الهلاك والدمار في الدنيا والآخرة والعياذ بالله.. قال سبحانه: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾. وعَن أَنَس رضي الله عنه أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء برأيه».

واستمع ماذا قال سبحانه لنبيه داوود عليه السلام محذرا إياه من اتباع الهوى لأن الهوى يضل عن سبيل الله فقال سبحانه: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ثم ذكر مآل الضالين عن سبيله ومصيرهم فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾.

ونحن نرى في واقع الحياة اليوم كثيرا من الناس ممن يتبعون أهواءهم ويرغبون في العيش وفق هوى النفس ومقتضى الحرية المزعومة والتحضر والتمدن فيقودهم ذلك إلى التسيب وعدم الانضباط في أعمالهم بل في حياتهم كلها فهم يريدون أن يفعلوا ما يريدون بلا قيود ولا ضوابط ويريدون أن يعيشوا حياتهم كما يريدون هم لا كما يريد لهم الشارع والخالق والصانع جل جلاله وهذه الحرية التي يريدونها تشبه الحرية البهيمية أو الحيوانية أن صح تسميتها ويروى عن الجاحظ قوله: إذا تمكنت الشهوة من الإنسان وملكته وانقاد لها كان بالبهائم أشبه منه بالناس لأن أغراضه ومطلوباته وهمته تصير أبداً مصروفة إلى الشهوات واللذات فقط انتهى كلامه.

ولقد حذر الله تعالى هؤلاء وأمثالهم بان الحق يتطلب جهدا وصبرا وانه ليس دائما وأبدا يوافق هوى النفس ورغباتها ولو كان كذلك لفسدت الحياة وتعكر صفو العيش فيها لأن كل أحد يريدها وفق هواه وما تحبه نفسه فيها وهذا ما حذر منه الحق سبحانه بقوله: ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون﴾. يقول ابن كثير رحمه الله: (قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله عز وجل، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، أي لفساد أهوائهم واختلافها). وقال لقمان لابنه: (يا بني أول ما أحذرك من نفسك فإن لكل نفس هوى وشهوة فان أعطيتها شهوتها تمارت وطلبت سواها فإن الشهوة كامنة في القلب كمون النار في الحجر إن قدح أورى وإن ترك توارى).

اللهم إنا نعوذ بك من اتباع الهوى ومن منكرات الأقوال والأفعال ومن العمى بعد الهدى.