إشراقات

منهج للمجاهدة

21 يونيو 2018
21 يونيو 2018

حمود بن عامر الصوافي -

إذا كنا قد خرجنا من رمضان وأجوائه الإيمانية التي تساعدنا على الصفاء والنقاء والإيمان فما الذي يجدر بنا أن نستمسك به بعد رمضان لنبقي شعلة الإيمان متقدة دوما؟

فأمامنا طريق طويل، أحد عشر شهرا ليدور الزمان ويأتي رمضان المقبل ومن هنا اكتسب منهج مجاهدة النفس أهمية عظمى وميزة عليا وذلك لأنه يبقي على جذوة الإيمان طوال الأشهر المقبلة ويسهم في ترسيخ الإيمان وغيرها من الأخلاقيات.

فالحياة كلها سواء من طلب فيها الدنيا أو طلب الآخرة أو أرادهما معا لا بد للمرء أن يجاهد ويكابد من أجل تحقيق ما تصبو إليه نفسه ويهفو إليه ضميره لذلك لن ينال الفرد من الماديات ومتع الدنيا ولذائذها ما لم يجاهد نفسه غالبا في الدنيا، فيقول الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني وإنما تؤخذ الدنيا غلابا

وقال الله تعالى من قبل: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى»، وقال:«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

فما لم تسع وتتعب، وتجهد نفسك فلن تحصل إلى شيء من متع الدنيا ونعيم الآخرة فحتى أولئك الذين اجتباهم الله تعالى وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وظاهرة أمرهم أن يأخذوا بالأسباب ويجاهدوا في سبيل الحصول على الزاد الدنيوي والأخروي فمريم عليها السلام التي أكرمها الله تعالى ما لم يكرم الكثير من الناس، سخر لها الثمار في غير موسمه فكانت تأتيها فاكهة الشتاء في فصل الصيف وفاكهة الصيف في فصل الشتاء فاستغرب منها زكريا عليه السلام قائلا لها: «يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا» فكان الرد: «قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» إلا أن هذا القرب والإنعام والعطاء لم يخلو من عمل وإن خف فقد أمر الله تعالى السيدة مريم أن تعمل ولو أن تهز النخلة التي لا يمكن أن تهز، قال تعالى:«وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا».

أمرها الله تعالى أن تفعل ذلك ليعلمها ويعلمنا أن الحياة تحتاج إلى جهد، وأن النتيجة لا تتحقق ما لم يصاحبها بذل واجتهاد سواء في الدنيا أو الآخرة، قال تعالى:«وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ».

فلم تكن الثمار لتتنزل على مريم لولا اجتهادها وبذلها الضعفين في سبيل رضا ربها وتقديم العون والجهد لمساعدة الآخرين فنتيجة الاجتهاد لا يقتصر خيرها على الروحانيات بل يتعدى ذلك إلى الماديات بحصول البركة والتوفيق من الله تعالى، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ» وقال أيضا:«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

وهذا لا يعني إهمال الكسب واستقبال السماء لتمطر ذهبا أو فضة بل نتوجه بكليتنا إلى الله تعالى ونأخذ بأسباب الرزق التي أمرنا الله تعالى بها لنوازن في الحياة ونسلك منهج النبيين في الموازنة بين مطالب الروح والجسد فها هم الأنبياء أفضل خلق الله تعالى على الإطلاق لم يتركوا العمل وينصرفوا فقط إلى الصلاة والقراءة والعبادة بل جمعوا بين هذا وذلك لأن كل هذا من أمر الله تعالى قال تعالى: «وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ».

فنبي الله شعيب عمل في رعي الأغنام ومثله خاتم الأنبياء المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعمل داود عليه السلام في السروج والدروع قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، وزكريا عليه السلام كان نجارا إلخ وورد أن أفضل العمل ما كان من كد اليد.

لذلك يجب أن يكون نظام المجاهدة حاضرا في كل مناحي الحياة لنحقق رضا الله تعالى ونبدع في دنيانا ونعمر الأرض بأفضل السبل وأنجحها، وكلما أهملنا نظام المجاهدة تأخرنا سواء كان ذلك الأمر في ديننا أو دنيانا أو في أحدهما وإن كان الدين الحق لا يمكن أن يهمل الدنيا بل هو يصلحها ويأمر أتباعه بأن يبتدعوا أفضل السبل للسير عليها باستقامة بل أمر الله تعالى أن نمشي في مناكبها، قال تعالى: «فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».

وربما كان منهج الصبر من أنجع السبل التي تبقي الحماسة والمجاهدة على أشدها فالله تعالى في كتابه يأمرنا بالصبر على الصلاة والعبادة قال تعالى: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ»، وقال أيضا:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».

وهكذا ينبغي أن نكون يقظين صبورين في كل ما يصادفنا من أوامر وصعوبات فمن غير صبر لا يمكننا أن نحقق شيئا ذا بال أو أمرا مهما، قال تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».

فالصبر هو مجاهدة كبيرة بل هو أكبر الجهاد فهناك صبر ومجاهدة على ترك المعاصي والآثام وهناك صبر ومجاهدة على فعل الطاعات كالجهاد في سبيل الله والمحافظة على الصلوات في أوقاتها والصيام وإخراج الزكاة وغيرها من العبادات فلو لم يجاهد المرء نفسه ويصبر على تحمل التعب والضنى في سبيل ذلك لما استمر في العبادة وأحس براحتها وجمالها وروعتها لذلك خليق بنا أن نتصبر ونجاهد في سبيل تحسين علاقاتنا مع أنفسنا وذواتنا ومع خالقنا.

وقد أمر الله تعالى نبيه في القرآن أن يجاهد الكفار بالقرآن الكريم مجاهدة كبيرة بأحكامه ووسائله وطرق معالجته للشبه التي يلقيه الكفار على الإسلام والمسلمين قال تعالى: «فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا».

وينبغي للمؤمن أن يجاهد نفسه بقدر ما تسمح له الظروف ويتطلبه الموقف ويحتاجه فقد أمرنا الله تعالى أن نجاهد أنفسنا فقال:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، وأن نجاهد أيضا في والدينا سيما إن كانوا كبارا محتاجين إلينا، وأن نجاهد أنفسنا بالصلاة والزكاة وذكر الله تعالى قبل مقارعة الخصوم لتتقوى نفوسنا بالله تعالى وتقوى أفئدتنا، قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا». لذلك لما قوي إيمان المسلمين وكثر عددهم وأصبحت لهم قوة ومكنة أمروا بإعداد العدة وجاهد الكفار بالسيف قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ». وقد جاءت كلمة قوة نكرة لتشعر المسلمين أن أية قوة تقدرون عليها أو أية طريقة تسهم في تفوقكم على الأعداء فعليكم أن تسعوا إليها وأن أي ابتكار أو إبداع يجعلكم متقدمين على أعدائكم فيجب عليكم أن تبحثوا عنه ليضمن لكم التفوق والانتصار في المعارك.