إشراقات

آيات تأدية الأمانات والآيات التي بعدها من سورة النساء «5»

21 يونيو 2018
21 يونيو 2018

د.أحمد بن جابر المسكري -

ولا نزال مع آيات تأدية الأمانات والآيات التي بعدها من سورة النساء، ومع قول المولى الكريم سبحانه وتعالى: «يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنكمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدّوهُ إِلى اللّهِ وَالرّسولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِك خَيرٌ وَأَحْسنُ تَأْوِيلاً (59)»، وكثيرا ما يجتمع الإيمان بالله بالإيمان باليوم الآخر في كتاب الله تعالى لأنّ الإيمان به -سبحانه- إيمان بالمبدأ، والإيمان باليوم الآخر إيمان بالمنتهى، فالذين جمعوا بينهما كأنّما أخذوا بالإيمان من طرفيه فحازوه جميعه.

ومعنى: (إن كنتم تؤمنون) مع أنّهم خوطبوا بيا أيّها الذين آمنوا، أي: إن كنتم تؤمنون حقّا.

وفي قوله تعالى: «ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» بَيَانٌ لِفَائِدَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وجيء باسم الإشارة للتّنويه، وهي إشارة إلى الرّدّ المأخوذ من (فردّوه). و(خير) اسم لما فيه نفع، وهو ضدّ الشّرّ، وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، والتّأويل: مصدر أوّل الشّيء إذا رَجَعَه، مشتقّ من آل يؤول إذا رَجَعَ، وهو هنا بمعنى أحسن ردّا وصرفًا.

ثم يقول عز وجل: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)»، مناسبة النّزول: «وردت روايات عديدة، ومنها: كان بين رجل من المنافقين يُقال له بشر وبين يهوديّ خصومة؛ فقال اليهوديّ: انطلق بنا إلى محمّد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف؛ وهو الذي سمّاه الله {الطَّاغُوت}، فأبى اليهوديّ أن يخاصمه إلاَّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فلمّا رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقضى لليهوديّ.

فلمّا خرجا قال المنافق: لا أرضى،...».

(ألم تر): استفهام تعجيبي، لتعجيب القارئ والسامع من حال هؤلاء، والموصول مراد به قوم معروفون وهم فريق من المنافقين الذين كانوا من اليهود وأظهروا الإسلام لقوله: (رأيت المنافقين يصدّون)، ولذلك قال: (يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك). وصيغة الجمع في قوله: (الذين يزعمون) مراد بها واحد.

وجيء باسم الموصول الجماعة لأنّ المقام مقام توبيخ، كقولهم: ما بال أقوام يقولون كذا، ليشمل المقصود ومن كان على شاكلته.

والزّعم: خبر كاذب، أو مشوب بخطأ، أو مشكوك فيه، فإنّ الأعشى لمّا قال يمدح قيسا بن معد يكرب الكنديّ: (ونبّئت قيسـا ولـم أبـلـه،،، كما زعموا خير أهل اليمن)، غضب قيس وقال: وما هو إلا الزّعم، وقال تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يُبعثوا)، ولذلك قالوا: الزّعم مطيّة الكذب.

ويستعمل الزّعم في الخبر المحقّق بالقرينة، كقوله: (زعم العواذل أنّني في غمـرة،،، صدقوا ولكنْ غمرتي لا تنْجلي)، فقوله: (صدقوا) هو القرينة. وقد كان الذين أرادوا التّحاكم إلى الطّاغوت من المنافقين، فإطلاق الزّعم على إيمانهم ظاهر. وعطف قوله: (وما أنزل من قبلك) لأنّ هؤلاء المنافقين كانوا من اليهود، وقد دخل المعطوف في حيّز الزّعم فدلّ على أنّ إيمانهم بما أنزل من قبل لم يكن مطردا، فلذلك كان ادعاؤهم ذلك، لانتفاء إيمانهم بالتّوراة في أحوال كثيرة مثل هذا، إذ لو كانوا يؤمنون بها حقّا لم يكونوا ليتحاكموا إلى الكهّان، وشريعة موسى عليه السّلام تحذّر منهم.

وقوله: (يريدون) أي يحبّون محبّة تبعث على فعل المحبوب.(أن يتحاكموا) أي: يرفعوا خصوماتهم.

والطّاغوت، يَصِحُّ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، هذا طاغوت، وهؤلاء طاغوت، وأصله من الفعل المجرّد: طَغَى يَطْغَى: ِأي: جاوز الحدّ، «إنّا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية»، أمّا أصله الصّرفي فهو: فَعَلُوت من أبنية المبالغة مثل: مَلَكُوت ورَحَمُوت ورَهَبُوت وجبروت، أي: كثير الطّغيان.

ولكن حدث فيه قلب مكانيّ، وفيه إعلال، وتفصيل ذلك كما يأتي:

(طَغَيَ) > نصوغ منه وزن فَعَلُوت > (طَغَيُوت) > ثمّ حدث قلب مكانيّ، انتقال اللام إلى ما بين الفاء والعين > (طَيَغُوت) ووزنها فَلَعُوت > تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا > (طَاغُوت) ووزنها فَلَعُوت.

أمّا الطّاغوت بحسب الاصطلاح القرآنيّ فهو: «مَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ سَبَبًا لمُجَاوَزَة النّاسِ حَدَّ الْمَعْرُوفِ إلى الْمُنْكَرِ»، فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ مَصَادِرِ طُغْيَانِهِمْ، مثل: الأصنام، «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)»، سورة الزّمر، وكذلك كلّ مَخْلُوقٍ يُعْبَدُ ويُقَلَّدُ ويَحْكُمُ فِيهِمْ بِأَهْوَائِهِ فَيَتَّبِعُونَهُ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وغيره من الكهّان والأحبار والرّهبان، والنَّاس الَّذِينَ يَكُونُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا الْكَذِبَ لِيُضِلُّوا النَّاسَ، «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)»، سورة النّساء، «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)»، سورة المائدة، وكذلك الشَّيْطَانُ، «الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)»، سورة النّساء.

أمّا سيّدنا عيسى عليه السّلام وغيره من المؤمنين الذين عُبِدوا من دون الله فلا يدخلون في التّعريف، فالذين اتّخذوهم آلهة من دون الله لم يطيعوهم، بل أطاعوا شياطينهم وأهواءهم فكفروا بالله سبحانه.

وإلى اللقاء بمشيئة المولى سبحانه وتعالى.