أفكار وآراء

حروب واشنطن التجارية .. أبعاد وتوقعات

20 يونيو 2018
20 يونيو 2018

عبدالعزيز محمود -

من الواضح أن الهدنة بين أكبر اقتصاديين عالميين قد انتهت بإعلان الولايات المتحدة والصين، فرض رسوم جمركية عقابية متبادلة بنسبة ٢٥٪ على واردات سلعية لكل منهما قيمتها ٥٠ مليار دولار وسط مخاوف من اندلاع حرب تجارية بينهما تهدد الاقتصاد العالمي.

ومن الواضح أيضا أن البلدين لم يتمكنا من التوصل إلى اتفاق حول خفض العجز الهائل في الميزان التجاري بينهما، والذي بلغ ٣٧٦ مليار دولار في عام ٢٠١٧ لصالح الصين، ومعالجة خلافاتهما حول حقوق الملكية الفكرية.

ويبدو أن المحادثات التجارية الجارية بينهما منذ أسابيع ما زالت تراوح مكانها، مما يعني أن التوصل إلى تفاهم يسمح بوقف تطبيق الرسوم الجمركية الجديدة قبل موعد سريانها في ٦ يوليو المقبل قد يكون صعبا، فالمدة المتبقية قصيرة وغير كافية على الأرجح.

ومن غير المتوقع أن تتمكن الولايات المتحدة التي تعد القوة الاقتصادية الأولى في العالم (ناتجها المحلي الإجمالي يتجاوز ١٩ تريليون دولار عام ٢٠١٧)، والصين ثاني أكبر قوة اقتصادية عالمية (ناتجها المحلي الإجمالي يتجاوز ١٤ تريليون دولار في عام ٢٠١٧) من معالجة نزاعتهما التجارية خلال الأسبوعين المقبلين.

ولعل هذا ما دفع واشنطن للتلويح بفرض مزيد من الرسوم الجمركية على سلع صينية أخرى قيمتها ١٠٠ مليار دولار وفرض قيود على الاستثمارات الأمريكية في الصين بحلول ٣٠ يونيو الجاري، ردا على الموقف الصيني، وذلك في محاولة لتسريع وتيرة المحادثات، لكن بكين تهدد باتخاذ إجراءات مماثلة.

ومن المؤكد أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد رامب تحاول أن تسبب للصين ألما اقتصاديا، يدفعها إلى عقد اتفاق بدلا من مواجهة حرب تجارية، في ظل قناعة راسخة بأن الاقتصاد الأمريكي يمكنه مواجهة أي إجراءات عقابية من الطرف الآخر، مع قدرته على تدبير مشترين محليين للسلع والخدمات إذا تراجعت فرص التصدير.

وهذا بالضبط هو ما دفع واشنطن في ١٥ يونيو الجاري لفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة ٢٥٪ على سلع تكنولوجية تستوردها الصين من الولايات المتحدة قيمتها ٥٠ مليار دولار، لمنعها من تنفيذ خطتها لأن تكون رائدة عالميا في مجال التكنولوجيا بحلول عام ٢٠٢٥

لكن رد الفعل الصيني لم يكن بالشكل الذي توقعته واشنطن، فقد فرضت بكين بعد 24 ساعة فقط رسوما مماثلة على سلع أمريكية قيمتها ٥٠ مليار دولار، تمثل تقريبا كل المنتجات الزراعية التي تستوردها الصين من الولايات المتحدة.

ولم تكن هذه المواجهة هي الأولى من نوعها بين البلدين، فقد فرضت واشنطن في أبريل الماضي رسوما جمركية إضافية على واردات الصلب والألمنيوم القادمة من الصين، مما دفع بكين لفرض رسوم مماثلة على واردات أمريكية.

ومع تصميم البلدين على المواجهة بدلا من الاتفاق، تتزايد المخاوف من تعرض المصدرين الأمريكيين والصينيين لخسائر كبيرة بسبب الرسوم الجمركية العقابية المتبادلة، والتي تهدد بنشوب حرب تجارية شاملة بين الصين والولايات المتحدة.

فإدارة الرئيس ترامب تبدو مصممة على استخدام الرسوم الجمركية العقابية كأداة للضغط على الصين، للحد من تقدمها التكنولوجي والصناعي، وحتى لا تشكل تهديدًا لمكانة الولايات المتحدة الاقتصادية عالميا، وقوتها الجيوسياسية في آسيا والمحيط الهادئ.

وعلى الجانب الآخر تحاول الصين بالإجراءات المضادة التي اتخذتها إلحاق أكبر أذى بمنتجي السلع الأساسية داخل الولايات المتحدة. كل المعطيات تقول: إن الرسوم الجمركية العقابية التي أعلنتها واشنطن لن تكون كافية وحدها، لمنع الصين من التحول إلى دولة تكنولوجية متقدمة، أو معالجة العجز الهائل في الميزان التجاري معها، بينما تبدو الإجراءات الصينية أكثر قدرة على تهديد صادرات الولايات الأمريكية التي صوتت لصالح الرئيس ترامب في انتخابات عام ٢٠١٦، وبالتالي تهديد شعبيته فيها، وكذلك تهديد فرص الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس. بل إن سياسة المجابهة التجارية التي ينتهجها الرئيس ترامب ضد الصين قد تؤثر بالسلب علي جهوده لإخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي، فالصين هي الحليف الأول لكوريا الشمالية، كما أنها لاعب مهم في المحادثات الجارية مع بيونج يانج لإقناعها بالتخلي عن برنامجها النووي.

والسؤال المطروح الآن هو هل يمكن لواشنطن في ظل هذه المعطيات أن تتراجع عن المواجهة التجارية مع بكين، في حال التزام الأخيرة بزيادة مشترياتها من المنتجات الأمريكية، والامتناع عما تعتبره واشنطن انتهاكا لحقوق الملكية الفكرية؟

نظريا لا يوجد ما يمنع هذا، لكن إدارة الرئيس ترامب تبدو عازمة، في ظل اعتقاد بأنه ليس لديها ما تخسره، على مواصلة سياسة المجابهة حتى آخر مدى لإجبار الصين على فتح أسواقها دون قيود أمام السلع والخدمات الأمريكية، أو مواجهة حرب تجارية تهدد الاقتصاد الصيني بمزيد من التباطؤ.

وعلى الجانب الآخر تراهن بكين على إمكانية تراجع واشنطن في مرحلة ما عن محاولة إجبارها على تقديم تنازلات، فالرسوم الجمركية العقابية المضادة التي اتخذتها، سوف تزيد الضغوط الداخلية على الرئيس ترامب، من جانب الولايات الأمريكية التي تتأثر صادراتها إلى الصين، وأيضا من جانب الحزب الجمهوري.

وبينما تتواصل لعبة الشد والجذب بين واشنطن وبكين، تواصل إدارة الرئيس ترامب ضغوطها على حلفائها في أوروبا وكندا والمكسيك، عقب قيامها برفع الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألمنيوم القادمة منهم، وذلك في محاولة لإجبارهم علي الاتفاق مع الولايات المتحدة على خفض العجز في الميزان التجاري معها، أو مواجهة حرب تجارية.

ومع ارتفاع وتيرة المواجهة التجارية مع الصين، دعت الإدارة الأمريكية الاتحاد الأوروبي لإجراء محادثات حول خفض الحواجز التجارية بينهما، لكن الاتحاد رفض أي تفاوض رسمي حتى يتم إعفاء أوروبا من الرسوم الأمريكية على الصلب والألمنيوم، والتي دفعت أوروبا لفرض رسوم مماثلة على واردات أمريكية.

ومن الواضح أن المواجهة التجارية بين واشنطن وأوروبا مرشحة لأن تأخذ أبعادا أخرى، بعد أن طالبت ألمانيا الاتحاد الأوروبي بإعادة صياغة العلاقات مع الولايات المتحدة، وأن تتحمل القارة الأوروبية قدرا أكبر من المسؤولية عالميا في مجالي الدفاع والسياسة الخارجية.

وهكذا تتسبب سياسة المجابهة التجارية التي تتبناها إدارة الرئيس ترامب في تهديد علاقات واشنطن بالاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، وسط مخاوف من انهيار الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتجارة والدفاع، وتعرض الاقتصاد العالمي لتباطؤ النمو وارتفاع أسعار المواد الخام وتراجع معدلات التجارة.

وعلى صعيد العلاقات مع الصين، من المرجح أن تتسبب هذه السياسة، التي تحاول إحداث تغييرات جذرية في الاقتصاد الصيني، في زيادة حدة التوتر بين الولايات المتحدة والصين، واندلاع حرب تجارية بينهما، سوف تلحق أضرارا حتمية بقطاع الأعمال والمستهلكين، وإن كان تأثيرها سوف يكون محدودا على النمو الاقتصادي للبلدين.

كل المؤشرات تقول: إن حروب واشنطن التجارية سوف تدفع شركاءها وحلفاءها للبحث عن بديل، بتعميق التعاون التجاري فيما بينهم، وتطوير علاقاتهم التجارية مع روسيا، مما يعني أن واشنطن سوف تخسر في النهاية الصين، وأيضا أوروبا وكندا والمكسيك، وهذا بالضبط هو الهدف الذي تسعى إليه موسكو.