أفكار وآراء

تناقض تشجيعي

20 يونيو 2018
20 يونيو 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

الحماس الأسطوري لمتابعة مباريات كأس العالم في كل أرجاء المعمورة لم يعد بحاجة إلى شارحين ومفسرين يوضحون أسباب ذلك، فالدوافع السيكولوجية والاجتماعية والوجودية للتعلق بالكرة ونجومها ومنافساتها أضحت مفهومة للكافة. لكن العجيب الذي يشغل ذهني منذ فترة هو ان كرة القدم أصبحت “بزنس“ من الألف إلى الياء، ولم تعد هواية، فلماذا يلتهب الحماس لهذا النوع فقط من “البزنس” بينما يضن الجمهور بالتشجيع لأنماط الأعمال الأخرى بل ويرفضها أو يقاومها أو يسخر منها أو ربما يحرض ضدها في بعض الأحيان ؟، ولماذا لا يشجع الناس بنفس الدرجة أو حتي بأقل منها أنواعا من “البزنس” صنعت فارقا كبيرا في حياة البشرية أو الدول (باستثناءات نادرة كتعلق الملايين بستيف جوبز ومبتكراته) ؟. أكثر من ذلك لماذا تحتشد الأعمال الفنية والسينمائية والمسلسلات بالهجوم علي رجل الأعمال وتلصق كل الشرور به وتمجده فقط حال كونه يقود ناد -مفضل- بطريقة فعالة أو ناجحة ؟ بمعني أوسع لماذا يقاوم الجمهور طوال الوقت الرأسمالية والرأسماليين إلى حد بعيد مهما قيل له عن دور الرأسمالية والمبادرة الحرة والعمل الخاص في إيجاد فرص العمل وزيادة الصادرات وتوسيع المعمور ومضاعفة السياحة وتطوير الخدمات  وتبني المواهب الخ ؟. ما هي الدروس الأساسية التي يجب ان يخرج بها مجتمع الأعمال من الإقبال الرهيب على الكرة وعالمها والقبول الراضي بأنماط الأعمال التي باتت تحركها أو تقوم عليها أو تلتصق بها أو حتى تتطفل عليها ؟

بعيدا عن الأيديولوجية -يمين ويسار- سأسعى إلى الاجتهاد في طرح إجابات مبسطة ومباشرة للأسئلة السابقة من واقع الخبرة الشخصية والمتابعة والتقصي.

صحيح أن عالم الكرة أو الأعمال ذات الصلة بالكرة من بيع وشراء اللاعبين والانتقالات الموسمية وحقوق البث والدعاية وشراء الأدوات الرياضية وإقامة الملاعب وصيانتها الخ، تشهد في كثير من الأحيان مخالفات صارخة أو واضحة، وحالات فساد كبير أو صغير، وتحقيق منافع غير مشروعة أو غير قانونية على حس الكرة، لكن يبقى في اللعبة عامل أساسي يفسر القبول العام في العالم لها من أهل اليمين أو أهل اليسار هو أن الملعب في النهاية كاشف لكل شيء، وان أي فساد ستظهر نتائجه السيئة مهما كانت حيل الإخفاء المتبعة، وبالتالي يستطيع الجمهور أن يحاسب إدارة النادي أو رجل الأعمال أو الشركة التي تملكه أو تديره ومن يقدر على جماهير الكرة وقتها؟. في مقابل القبول والرضا بقيام صاحب النادي أو أطراف اللعبة بتحقيق أرباح ضخمة يحصل الجمهور على متعتين قلما يجدهما معا في أي حقل أعمالي آخر ألا وهما المتعة الخالصة والإثارة البريئة ومعهما القدرة على المحاسبة والمساءلة والتغيير بسرعة وبشكل مباشر أي دون دورة طويلة من المرور على برلمان أو جهاز حماية منافسة أو جهاز احتكار أو أي جهة لتلقي الشكاوى أو القيام بأعمال الرقابة.

الأمر الآخر والأساسي أيضا هو مقدار ما في اللعبة والمنافسة من شفافية فكما قلت مرارا قد يجامل صاحب النادي لاعبا أو ابن صديق أو قريبا أو سياسيا وقد يجامل المدرب لاعبا أو قد يتعمد تعطيل سطوع نجم أو الحيلولة دون إظهاره لمواهبه بكثرة ركنه الخ، لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولن يحصل على الشهرة والمجد والمال والشعبية الواسعة إلا ناد قوي أو لاعب موهوب بحق. بالطبع ثمة استثناءات قليلة للغاية في هذا السبيل أيضا لكن القاعدة تبقى كما هي، فاللعب “على عينك يا تاجر” كما يقول المثل المصري العامي، والملعب مفتوح والأرض الخضراء مسطحة، والشهود على ما يجري أصبحوا ليس عشرات الآلاف كما كان الحال سابقا، بل مئات الملايين بلا مبالغة، فمن سيكذب كل هؤلاء اللاعبين أو يتلاعب بكل تلك العقول؟.

الدرس الثالث الذي يتعين أن يتبصره مجتمع الأعمال في أي قُطر أو على المستوى الدولي هو العدالة الواضحة في معادلة التكلفة والعائد فيما يتعلق بالكرة والفرجة عليها، فإذا كان صحيحا ان اللعبة تحقق عوائد بالمليارات لأطرافها فان ما يتحمله الفرد أو حتى تتحمله الأسرة في مقابل المشاهدة والاستمتاع بذلك المنتج العجيب هو في حدود الممكن في الأغلب الأعم، وقد لا نجد منتجا آخر في عصرنا تنطبق عليه تلك المعادلة بنفس طريقة انطباقها على الكرة... فالسينما في تقديري وهي فن رائع وقوي التأثير في مئات الملايين أيضا لكن تكلفة المشاهدة أصبحت مرتفعة بشكل واضح خاصة بعد ان تم إزاحة كل ما هو قطاع عام في هذا المجال في كل دول العالم تقريبا وهيمن منطق أعلى ربح على أصحاب دور العرض الجديدة (في المولات غالبا) شأنهم في ذلك شأن أي عمل خاص، وترتب علي ذلك عمليا انخفاض كبير في أعداد الأفراد والأسر من الطبقات دون المتوسطة والمحدودة الدخل التي أصبحت قادرة على ارتياد دور العرض. وبهذه المناسبة فإن ثمة مثل معروف يقول بع بأقل ربح، تبع كثيرا وتكسب في النهاية كثيرا، ولا أستطيع أن أرى نشاطا ينطبق عليه هذا المثل أكثر من كرة القدم التي تصل إلى الجماهير الواسعة بتكلفة معقولة وكلما كانت التكلفة معقولة يزداد عدد المقبلين عليها وبالتالي ترتفع أرباح البائع أو المسوق لاتساع حجم السوق، وقد شهدنا بالفعل بعض الممارسات الاحتكارية في السنوات الأخيرة وبسببها زادت التكلفة على المشاهدين أو قطاعات منهم غير أن مجتمع الإدارة العالمي للكرة لا يزال قادرا على التصدي لها وكشفها وقد أضيف أنا من عندي هنا مطلبا أن تخضع الكرة عالميا لقواعد تقرها الجمعية العامة للأمم المتحدة - نعم ولم لا ؟ - حتى لا تتكرر العمليات الاحتكارية أو التي فيها شبهة احتكار أو فساد وليستمتع غير القادر وأهل المناطق النائية باللعبة شأنهم شأن الآخرين، خاصة وان الكرة أصبحت خاصة عند الشباب مثل رغيف الخبر تقريبا.

أيضا فإن الكرة لعبة يملكها مشجعوها بمثل ما يملكها أصحاب المال ويجب أن تظل العلاقة بهذا التوازن حيث إن إقحام السياسة فيها فرصته محدودة وهو خطر على الاثنين أي على نصيب الجماهير في اللعبة ونصيب صاحب النادي كذلك حتى ولو ربح في البداية. يحدث كثيرا في الواقع تداخل السياسة والبزنس، وقد رأينا بأعيننا في بلاد عديدة نماذج لذلك، وكيف انه أفضى إلى نتائج قاسية على من خاضوا هذا السبيل بعد ان بدا لوقت من الأوقات أنهم هيمنوا أو ربحوا أو حصلوا على ما لا يجب ان يحصلوا عليه ؟. ان وجود الجماهير الغفيرة يشجع من جانب على استغلال اللعبة سياسيا، لكنه يمنع من جانب آخر توغل السياسة في اللعبة، وبقدر ما يحافظ رجل الأعمال صاحب النادي على التوازن الدقيق بين الاثنين، بقدر ما ينجح ويجد المؤازرة من الجماهير، وليس استغلال بعض مجموعات الأولتراس سياسيا وما ترتب عليه ببعيد.

أخير فإن حب الجماهير للاعب الكرة -رغم انه في حد ذاته أصبح وكأنه شركة ويحسب كل خطوة ولفتة - يعود في جانب منه ليس إلى فنه فقط، ولكن مساهماته الاجتماعية في وطنه أو على الصعيد الإنساني، وأتمنى ان يتدبر رجال الأعمال في بلادنا أنماط العطاء الاجتماعي للاعبين، حيث كل الموهوبين كرويا عموما من طبقات فقيرة، وكيف يساهمون في جوانب وثيقة الصلة بحياة أهل مناطقهم أو قراهم أو شوارعهم، خلافا لما تسميه الشركات “المسؤولية الاجتماعية لرأس المال“ والذي نادرا ما يكون له تأثير فعلي، لأن ممارسة المسؤولية هنا تتم بعيدا عن الحس المتعمق  بالاحتياجات الحقيقية للناس. لو روعي كل ذلك ستشجع الجماهير الأعمال الخاصة تقريبا كما تشجع الكرة.