Ahmed-New
Ahmed-New
أعمدة

نوافذ: الندية.. ما أبغضها وما أحقرها

19 يونيو 2018
19 يونيو 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يكتوي الإنسان بنار سلوكياته وتصرفاته، فهو من يقسو على نفسه، وهو من يعالج نفسه، هو من يدخل نفسه في معترك القضايا المهلكة، والمآسي القاتلة، وهو من يأتي ليبحث عن حلول لقضاياه، وعن منقذ لمهاوي غرقه، يعيش دوامة التصدع الدائمة، فلا هو يستريح؛ فيريح نفسه ومن حوله من الكائنات، ولا هو يتبنى الحلول لمختلف القضايا دون أن يكون طرفا سيئا فيها، هذه إشكالية بشرية، أكثر بخلاف الكائنات الأخرى التي لا تهاجم جنسها إلا بقدر الحاجة لإرواء غرائزها، ومن ثم تعود إلى عرينها فتستكين، بينما الإنسان لا يقف عند حد الاكتفاء، فلا يزال يبحث عن المزيد، وكلما حقق مستوى معينا فكر في المستوى الذي يليه علوا، وهكذا يعيش دوامته بلا توقف، وهذا الإنهاك النفسي والعصبي هو الذي يبعث فيه هذا الحرص على التميز؛ وإن كلفه هذا التميز المعاناة؛ ووضعه في وجه فوهة البندقية مع أقرب الناس إليه.

والـ«ندية» أو المواجهة المقرونة بالتحدي واحدة من قضاياه اليومية التي يعيش معتركها، ولا يتنازل عن معانقتها مهما كلفه ذلك من مشقة، ومن دفع ثمن باهظ، فالمهم ألا يستسلم أبدا، «فماذا يقلل من شأنه عن الآخرين» كما هو الفهم السائد، وهذه الندية بقدر أهميتها في وجود مختلف التمايزات بين بني البشر عموما، وتقدمهم ومجابهتهم لمختلف التحديات التي تعترض طريق بناء حيواتهم المختلفة، إلا في جانب آخر تسبب أضرارا اجتماعية غائرة في النفس» إن القلوب إذا تناثر ودها: مثل الزجاج كسرها لا يجبر» حيث تحتاج إلى كثير من الزمن لكي تبرأ، وتعود سيرتها الأولى.

لذلك ولحماية هذه النفس من أن تظل على تشوهاتها الدائمة فيما تحدثه من جروح غائرة، تأتي النصوص الدينية لتعالج الكثير من هذا التلبس بهذه المحفزات النفسية للإساءة إلى النفس، وإلى الآخر أيضا، وهي بمثابة كبح جماح لهذه الغرائز المنفلتة من عقال حكمتها وتعقلها، وتبصرها فـ«النفس راغبة إذا رغبتها: وإذا ترد إلى قليل تقنع» وإن كانت بعض النفوس من شدة غلوها لا تلين قلوبها حتى لمقاصد النصوص الدينية، وكثير منها لا يتعظ إلا من خلال ردة فعل قاسية تعيد هذه الانفلاتات إلى مواضعها الحقيقية؛ ولذلك قيل: «أنه لولا ثلاثة؛ لما طأطأ الإنسان هامته؛ وهي: الفقر، والمرض، والموت» فهذه الثلاثية، تظل هي الكفيلة لإنزال هذه الجبهة من عليائها، وجعلها تحثو التراب على جبينها، فلعلها تهدأ قليلا من هذا اللهاث المستعر طوال الأربع والعشرين الساعة.

والـ«ندية» بغيضه في فعلها السيئ، ومحتقرها في تقصدها الإساءة إلى الآخر؛ لأن هذا الآخر هو نفسه الذات الإنسانية التي يحملها جسد آخر فقط، فهي بالتالي لها نفس المشاعر، ونفس المعاني، ونفس الهواجس، فإذا مارس أحدنا إقصاء على آخر مقابل له، واعتبره ندا أو خصما، وقع في المحظور، والمحظور هنا ظلم الآخر، وهذا لا ينفي مجموعة العوامل أو المكونات النفسية التي تميز آخر عن قرينه، ولكن بشرط ألا ينعكس ذلك على صورة تعد، واحتقار، وعدم إعطاء الفرصة لأصحاب الملكات لأن يأخذوا دورهم في الحياة، فهذه سنة الله في خلقه من وجود هذه التمايزات والاختلافات بين بني البشر عامة.

هناك من ينظر إلى الـ«ندية» على أنها معبرة عن ثقافة مجتمعات، ولكن الواقع لا يؤصل هذه القناعة، فالبشرية على امتداد أفق وجودها، وعلى امتداد تاريخها قدمت الـ«ندية» على أنها حالة من الصراع بين الأفراد، وهي عامل مشترك بين كل الأقوام التي تعيش على الكرة الأرضية؛ ولذلك ظلت المجابهة قائمة منذ بدء الخليقة؛ حيث اقتتال ابني آدم؛ وإلى اليوم، ولن تزول هذه المواجهة، ولن تهدأ لما هو صالح الجميع «وإن لله في خلقه شؤونا».