أفكار وآراء

الفساد كارثة اقتصادية أيضا

17 يونيو 2018
17 يونيو 2018

شون هَيجَان- مركز شاتام هاوس -

ترجمة قاسم مكي -

الفساد مشكلة عالمية يتزايد الاهتمام بها. وحول العالم، أثارت قضايا الفساد الكبيرة التي طفت إلى السطح استياءً أخلاقيا مبررا. ففي بلدان عديدة يغذي تزايد اللا مساواة وتزعزع الثقة فكرة انعدام الإنصاف والاعتقاد بأن النخبة تلعب بقواعد مختلفة. ردا على ذلك تظهر الحكومات استعدادا متزايدا بوضع يدها على هذه المشكلة. والمهم إدراكها أن الفساد العام (الذي يتخلل المنظومة برمتها) ليس فقط مشكلة أخلاقية وسياسية ولكنه أيضا مشكلة اقتصادية.

وفي الواقع يكشف آخر بحث تحليلي وتجريبي قام به صندوق النقد الدولي عن المدى الذي يمكن أن يقوض به الفساد النمو المستدام والذي يشمل الجميع، وخصوصا عندما يكون الفساد عاما. أي عندما لا يكون استثناء عن القاعدة ولكنه القاعدة نفسها. فهو في هذه الحال يمكنه القضاء على قدرة الحكومة على أداء وظائف الدولة المهمة، بما في ذلك ممارسة السياسات المالية والنقدية، وإعداد وتطبيق إجراءات تنظيم الأسواق، والإشراف على القطاع المالي، وحكم القانون. لنأخذ السياسة المالية على سبيل المثال والتي تعني ممارسة سلطة الحكومة في تحصيل الإيرادات والإنفاق العام. ففي بلد يستفحل فيه الفساد ستتأثر قدرة الدولة على فرض الضرائب. ويترجم ضعف الثقة في الحكومة، الذي ينشأ عن الفساد المستفحل، نفسه إلى ضعف في ثقافة الالتزام بسداد الضرائب، ووجود معدل مرتفع للتهرب الضريبي. ويؤدي تدهور الإيرادات الحكومية، إلى عدم الاستقرار الاقتصادي مع اضطرار الحكومة لمراكمة ديون، يمكن بسرعة أن تكون غير مستدامة. وعلى جانب الإنفاق يشوه الفساد العام قرارات الإنفاق ويدفع بها نحو المشاريع الكبيرة التي تنطوي على الهدر المالي، وتوليد الرشاوي، بعيدا عن الاستثمارات المفيدة اجتماعيا، في مجالات مثل التعليم والصحة. فضوابط الإنفاق الضعيفة وممارسات المشتريات الفاسدة، ببساطة تهدر الموارد العامة، مما يقوض قدرة الحكومة على تقديم خدمات اجتماعية تمسُّ الحاجة إليها. وبما أن الفقراء يعتمدون بشدة على الخدمات الحكومية، فإنهم يتضررون من هذه التشوهات أكثر من الآخرين مما يرسخ الفقر. كذلك يحد الفساد العام من قدرة الحكومة على اجتذاب الاستثمار الخاص. فالرشاوي تجعل الاستثمار أكثر كلفة. وفي الحقيقة كثيرا ما يشار إلى الفساد كضريبة على الاستثمار. وربما الأكثر أهمية من ذلك أن المستثمر الذي يفكر في استثمار رأسمالي كبير قد يدفعه توقعه بدفع سلسلة متواصلة من الرشاوي إلى الامتناع أساسا عن مثل هذا الاستثمار. كما يقوض الفساد العام أيضا الشمول المالي. فحين لا يمكن إنفاذ عقود الائتمان داخل نظام المحاكم ستزداد تكلفة الائتمان وصعوبة الحصول عليه. وعلى مستوى أعلى من ذلك، يضعف الفساد مراقبة النظام المالي والاستقرار من خلال ممارسات الإقراض الفاسدة، وضعف الإشراف على البنوك، واختطاف هيئات تنفيذ القانون. وبشكل أعم، يضعف الفساد العام النسيج الاجتماعي، من خلال أثره غير المتكافئ على الشباب. فحينما يرى هؤلاء أن المهم هو «من» تعرفه وليس «ما» تعرفه، يمكن أن يقضي ذلك على حافز السعي للتعليم. ويمكن أن يفضي الفساد في أسوأ تجلياته إلى اضطرابات مدنية وصراع مسلح، مع ما يترتب على ذلك من عواقب اقتصادية وبشرية مدمرة. كيف للمرء مكافحة الفساد؟ نقطة البداية هي الإقرار بعدم وجود علاج سريع. والمطلوب مقاربة كلية أو شاملة. ارتكازا على تجربة صندوق النقد الدولي، توجد أربعة عناصر رئيسية لبناء استراتيجية فعالة لمكافحة الفساد، هي الشفافية، وتعزيز حكم القانون، والإصلاح الاقتصادي، وبناء المؤسسات.

فالشفافية، إلى جانب تعزيز الفعالية وسلامة اتخاذ القرار، أداة فعالة جدا في مكافحة الفساد. وهذا ليس مفاجئا لأن الفساد يزدهر في الأوضاع التي تكتنفها الأسرار وغير الشفافة. في بحثه المذكور يدعو صندوق النقد الدولي إلى الامتثال للمعايير العالمية التي تستهدف تعزيز الشفافية والمحاسبة في 12 مجالا من مجالات السياسات الأساسية تشمل نشر البيانات، والسياسة المالية، والسياسة النقدية، والتمويلية. ومن الواضح أن تعزيز حكم القانون حاسم في أهميته كذلك. قليلة هي روادع الفساد الأقوى تأثيرا من التهديد الجاد بمقاضاة المسؤولين الفاسدين ومصادرة الأموال التي يتم الحصول عليها بطرق غير مشروعة. وفي البلدان التي يكتنفها الفساد العام قد تكون المؤسسات المكلفة بمقاضاة الفساد هي ذاتها فاسدة. في هذه الحالات كشفت التجارب عن احتمال الحاجة إلى إنشاء وتمكين مؤسسات جديدة ولو لفترة مؤقتة حتى يتم تطوير قدرات قضائية كافية. ومن المهم ألا يقتصر تصدي الحكومات على المسؤولين العموميين الذين يستلمون الرشاوي فقط، ولكن عليها أيضا مقاضاة الراشين في القطاع الخاص والجهات الخاصة، التي تتولى تسهيل غسيل الأموال المتحصلة من الرشاوي. العنصر الثالث هو الإصلاح الاقتصادي. ففي حين أن النظم الإجرائية ضرورية في أي اقتصاد يرتكز على السوق، إلا أن هنالك حاجة لاتخاذ خطوات لمعالجة الإفراط في التنظيم الإجرائي، خصوصا حين تكون العملية التنظيمية غير شفافة. وكما يقول الاقتصاديون فإن الإفراط في التعقيد وانعدام الشفافية يوجدان «فرص السعي وراء الريع». إن التقنية آلية مفيدة على وجه الخصوص في هذا الجانب بالنظر إلى أنها يمكن أن تزيل الحاجة إلى «التقدير الشخصي» في عمليات التصديق البسيطة مما يحد من فرص إغراء المسؤولين بطلب الرشاوي. وأخيرا هنالك الإصلاح المؤسسي. إن المؤسسات التي تؤدي وظائفها بطريقة جيدة تدعم الشفافية وحكم القانون والإصلاح الاقتصادي. وفي الحقيقة تكون أجندة الإصلاح صالحة فقط، بمقدار صلاح المسؤولين المكلفين بتطبيق عناصرها، سواء كان هؤلاء مسؤولي المحاكم أوالادعاء أوالضرائب أوتنظيم العمل المصرفي أو أفراد الجمارك. ولكي تنجح جهود الإصلاح يجب أن تسعى لتطوير كادر(مجموعة مدربة تدريبا خاصا) من المسؤولين العموميين المقتدرين، والمستقلين عن النفوذ الخاص والتدخل السياسي. ويتطلب هذا إطارا قانونيا واضحا يؤسس ويُمَكِّن المؤسسات المعنية إلى جانب خبرة فنية للمسؤولين وأنظمة تحفيز واضحة للمسؤولين العموميين تكافئ المهنية وتحفز على كفاءة الأداء وتعاقب السلوك غير القويم. لكن ربما الأكثر أهمية أن جهود الإصلاح هذه تتطلب قيادة فعالة. هناك نماذج عديدة للقادة الذين من خلال استقامتهم الشخصية وموقفهم غير المتسامح إطلاقا (مع الفساد) تمكنوا من تغيير معايير سلوك المسؤولين العموميين في فترة قصيرة نسبيا.

هذه القضية ليست جديدة بالنسبة لصندوق النقد الدولي. بل في الواقع لقد رسم الصندوق في تاريخ مبكر يعود إلى عام 1997 سياسة لمعالجة الحوكمة والفساد في البلدان الأعضاء، وبنى هذه السياسة جزئيا على تجربتنا حتى ذلك الوقت. وبعد عشرين عاما من تبني تلك السياسة لأول مرة، تفحص الصندوق مدى نجاح تطبيق تلك السياسة.

• الكاتب مدير الإدارة القانونية بصندوق النقد الدولي