أفكار وآراء

القدس تفتح أبوابا للانتصارات العربية على إسرائيل

16 يونيو 2018
16 يونيو 2018

د. عبد العاطي محمد -

ليست الصورة القاتمة للوضع العربي قدرا لا فكاك منه، طالما هناك استمرار لروح المقاومة بكل أشكالها، وهذا ما حدث بالفعل في واقعتين هزتا الوضع الفلسطيني، تم التعامل مع كل منهما بحكمة وذكاء دبلوماسى، مدعوم بمقاومة سلمية عنيدة من جانب الفلسطينيين، مقاومة لا تزال متواصلة بنجاح عقب واقعة الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل.

الواقعة الأولى هي إلغاء مباراة كرة القدم الودية التي كانت مقررة بين المنتخبين الأرجنتيني والإسرائيلي ضمن الاستعدادات التي أجرتها كل المنتخبات لخوض سباق كأس العالم بموسكو، والواقعة الثانية هي امتصاص الأزمة السياسية والاقتصادية التي هزت الأردن لأول مرة منذ اندلاع ما يسمى بثورات الربيع العربي.

وربما لأول وهلة لا تبدو هناك علاقة بين الواقعتين، بل ربما يدفعان الكثيرين إلى عدم الاهتمام بالوقوف عند دلالاتهما وكيفية رد الفعل الفلسطيني من ناحية والأردني من ناحية ثانية والعربي من ناحية ثالثة. وقد يكون العذر هو أن تطورات كل منهما ذهبت في اتجاه يبتعد عن المغزى الحقيقي لما يمثله كل منهما من أهمية فارقة في التطورات المعاصرة التي تمر بها المنطقة العربية خصوصا في ظل حالة الانقسام القائمة منذ نحو سبع سنوات. ولكن الواقع الذي أحاط بكل منهما والنتائج التي ترتبت عليهما أصبحا كفيلان بالرد على من أرادوا أن يمضي كل منهما في نطاق ما هو خفي ومسكوت عنه، خاصة أن مصيرهما في نهاية المطاف باء بالفشل على إسرائيل والولايات المتحدة، وبالانتصار على الطرفين الفلسطيني والعربي، وكأن الانتصار العربي أصبح محكوما عليه دائما بالشكوك وعدم الاكتراث. صحيح أن الوضع برمته لا يسر أحدا لأن الهزائم السياسية تتوالى في ظل حالة الانقسام والمكايدة العربية، ولكن الحق لا يمكن إنكاره بعرض مشهد النجاح حتى ولو كان جزئيا، لأن ذلك يعزز مقولة الصمود والمقاومة طويلة النفس في وجه المخططات الإسرائيلية والأمريكية التي لا تريد أن تتوقف عند حد بعينه.

وبما أن أزماتنا العربية باتت معقدة ومتعددة الجوانب، فليس مفاجئا أو غريبا أن تختلط ملامح الوقائع ما بين السياسة من ناحية، والرياضة والثقافة والاقتصاد والإعلام والأمن والمواجهات المسلحة من ناحية أخرى. هكذا بدت واقعة المنتخب الأرجنتيني وكذلك واقعة مظاهرات الأردن الصاخبة التي ذهبت بعقول الكثيرين بعيدا بأن الأردن على أبواب تغيير كبير مثلما حدث مع غيره ممن أصابتهم رياح ما يسمى بالربيع العربي.

بقدر بسيط من التأمل بدت قضية القدس عنصرا مباشرا في كل من الواقعتين وبنفس القدر من التأمل بدت المقاومة لكل منهما مؤشرا على روح جديدة للتصدي والتعامل الناجح مع المستجدات الخطيرة التي باتت لا تتوقف طالما بقى هذا التحالف المشترك الإسرائيلي والأمريكي (في عهد ترامب) موجها للقضاء على البقية الباقية من الوجود الفلسطيني والعربي.

القدس كانت هي مفتاح فهم ما جرى والطريق لإحراز انتصارات دبلوماسية لم تتحقق من قبل. انتصارات لا يجب التقليل من شأنها بأي حال من الأحوال لأنها عنوان لرد الفعل المنتظر فلسطينيا وعربيا على ما يجرى التخطيط له من تحركات للإجهاز على القضية الفلسطينية وسط ظروف إقليمية وعالمية مضادة أو على الأقل غير منصفة للحق العربي.

باختصار بالنسبة لواقعة المباراة الودية، كان المنتخب الأرجنتيني قد اتفق مع المنتخب الإسرائيلي على إقامة هذه المباراة استعدادا من جانب الأرجنتين لكأس العالم على أن تقام على استاد سامى عوفر في مدينة حيفا، إلا أن ملعب المباراة تم تغييره فجأة لتقام المباراة في استاد تيدى بالقدس باعتباره الملعب الرئيسي في إسرائيل. هنا اكتسبت المباراة لونا سياسيا واضحا تماما هو اعتراف الأرجنتين بأن القدس هي عاصمة إسرائيل بناء على الاعتراف الأمريكي المعروف الذي أقام الدنيا وأقعدها. ولم يحدث التغيير على نحو بعيد عن مراميه السياسية أو بالأحرى ليس بعيدا عن تدخل إسرائيلي رسمي؛ لأن تحويل الملعب من حيفا إلى القدس هو بمثابة انتصار دبلوماسي إسرائيلي لا يجب تفويته من وجهة متخذ القرار في حكومة نيتانياهو. واعترفت إحدى الصحف الإسرائيلية بنية استخدام إسرائيل المباراة للدعاية السياسية حين قالت: «عندما يقف أفضل اللاعبين في العالم على الملعب في القدس، بالطبع لا توجد دعاية أكثر من ذلك». المسألة لم تتعلق بضغوط من جانب من يضمرون الكراهية لإسرائيل كما قال أفيجور ليبرمان وزير الدفاع الإسرائيلي، وإنما تتعلق بأن هناك توجها عاما عالميا رسميا وشعبيا ضد الموقف الإسرائيلي من القدس، وأيضا من الموقف الأمريكي المناصر له، ليس فقط لأن الموقفين شكلا تحديا صارخا لإرادة المجتمع الدولي وسخرية من القرارات الدولية ذات الشأن بخصوص القدس، وإنما لأن شعوب العالم ذاتها لا تستطيع أن تغمض عينيها عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين العزل الذين يتظاهرون على الحدود إحياء ليوم الأرض والدفاع عن القدس والمطالبة بإنهاء الاحتلال، وكلها تحركات تندرج تحت عنوان حقوق الإنسان الفلسطيني قبل أن تكون موضوعا للصراع حول التسوية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هكذا بدأت المتاعب مبكرة في وجه المنتخب الأرجنتيني الذي يضم نخبة لاعبي العالم بقيادة ليونيل ميسي اللاعب الشهير الذي لا يخفى انحيازه الصارخ لإسرائيل.

فور تحويل وجهة ملعب المباراة من حيفا إلى القدس، خرجت مظاهرات ضد المنتخب الأرجنتيني خلال التدريبات ببرشلونة استعدادا لهذه المباراة الودية وجاءت بالطبع من الجمهور الأرجنتيني، وتم حرق قميص المنتخب الأرجنتينى، وهتف الجمهور ضد ميسي ورفاقه، ووفقا لصحيفة هارتس الإسرائيلية تلقى بعض نجوم الأرجنتين تهديدات في حالة إقامة المباراة في القدس، ونقلت صحفا أرجنتينية عن أحد نجوم الفريق استهجانه قائلا: كيف نلعب ببال هادئ في الوقت الذي يعانى فيه كثيرون من الفلسطينيين. وفي تقويم الموقف رأت الأرجنتين التي ترغب في استضافة كأس العالم عام 2030 أن خوض مباراة من هذا النوع وفى القدس سيلطخ سجلها أمام المصوتين، خصوصا أن معظم الدول الأوروبية كانت ولا تزال ضد القرار الأمريكي بتغيير هوية القدس، كما كان واضحا أن المباراة تشكل خلطا بين الرياضة والسياسة وهو الأمر الذي تعتبره الفيفا من المحرمات.

أمام هذا الموقف السيئ الذي وجد المنتخب ألأرجنتيني نفسه فيه، قررت الأرجنتين رسميا إلغاء المباراة كلية مع المنتحب الإسرائيلي. وعلى الجهة الأخرى كان الإلغاء هزيمة سياسية لإسرائيل. من ناحيته أعرب وزير الدفاع الإسرائيلي أفيجور ليبرمان عن أسفه لإلغاء المباراة كلية. وذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، أن إلغاء المباراة بعد نجاح كبير لحركة المقاطعة الدولية وفرض العقوبات ووقف الاستثمارات الدولية في إسرائيل. وهي إحدى الآليات التي ابتكرها الفلسطينيون مؤخرا للرد على المواقف الإسرائيلية العدوانية، بجانب الطائرات الورقية الملغمة التي هزت أمن المستوطنات في شمال قطاع غزة.

وأما الواقعة الثانية الخاصة بمظاهرات الأردن، فقد كانت القدس حاضرة من خلف الأحداث. صحيح أنها مظاهرات خرجت للاحتجاج على قرارات حكومية تم اتخاذها لمواجهة المصاعب الاقتصادية التي يمر بها الأردن، إلا أن ذلك لا ينفي أنه توازى مع اندلاعها الترويج بقوة للخيار الأردني كحل للقضية الفلسطينية وليكون بديلا لحل الدولتين. وقد استغل المروجون لهذا الحل الأوضاع الجديدة التي تريد الولايات المتحدة بقيادة ترامب فرضها لإلغاء حل الدولتين خصوصا بعد وضوح الرفض الفلسطيني والعربي لما تم الترويج له بأنه صفقة القرن والتي كان بمقتضاها توسيع قطاع غزة بإضافة أراض مصرية والإبقاء على المستوطنات كما هي وإقامة حكم ذاتي لفلسطينيي الضفة. يضاف إلى ذلك أن قرار الاعتراف الأمريكي بالقدس مس بشكل أو بآخر الإشراف الأردني على المقدسات الإسلامية في البلدة القديمة، ذلك الإشراف القائم منذ 1948 برغم أن الأردن اكد بقوة على دوره في هذا المجال.

استطاع الملك عبدالله الثاني ملك الأردن نزع فتيل الأزمة بإقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة تتفاوض مع النقابات للوصول إلى توافقات تنقذ الأردن من الوضع الذي يمر به، كما امتدت يد التعاون من بعض الدول الخليجية، وكل ذلك استدراكا لما يخطط له بأن يصبح الأردن بديلا للدولة الفلسطينية ويتلاشى الحق الديني والسياسي للمسلمين والعرب والفلسطينيين في القدس، وبذلك يتم وضع النهاية القاتلة للقضية الفلسطينية. وهكذا مثلما كان إلغاء المباراة الودية بين إسرائيل والأرجنتين فشلا سياسيا للأولى وانتصارا للفلسطينيين، كان تطويق الأزمة الأردنية فشلا سياسيا آخرا لإسرائيل والولايات المتحدة، مع العلم بأن العنصر الحاكم في الواقعتين هو الصراع على القدس.