أفكار وآراء

أوروبا والإسلام.. إلى أين تتجه العلاقات بينهما؟!

15 يونيو 2018
15 يونيو 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

على مشارف نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين يشعر المرء وكأن هناك حالة انتكاسة في أجواء النهضة التي عرفتها أوروبا تلك القارة التي تندر عليها وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد في إدارة بوش الابن بوصفها القارة العجوز لكن أي شيء تريد أوروبا؟

المتابع لإيقاعات الحالة السياسية هناك منذ فترة يدرك إدراكا تاما أنها ردة في طريق معكوس عن ذاك الذي سلكته من قبل حين أرادت أن تنهض من كبوتها الإنسانية فكان العلم والعقل روادها، والحريات الدينية والمدنية ديدنها، ما قادها إلى موقعها وموضعها الحالي وسط قارات العالم.

ولعل السؤال الذي يواجه القارئ في الآونة الأخيرة ما الذي يستدعي إعادة قراءة معمقة لملف «النهضة- الرنيسانس الأوروبي؟

الشاهد أن الجواب يتصل اتصالا وثيقا ولصيقا بحالة القوميات المتصاعدة والتيارات اليمينية الأقرب إلى الأصولية التي باتت تخيم على السماوات الأوروبية، وقد لا يكون ما جرى في إيطاليا مؤخرا من وصول أحزاب لها ملمح تمييزي متطرف مثل جماعة «النجوم الخمس» إلى مقاعد الحكم هو آخر تلك العلامات، مع الأخذ بعين الاعتبار ما لهذه الجماعات من نظرة متدنية ضد العالمين العربي والإسلامي عامة ولكثير من مسلمي أوروبا بنوع خاص.

والشاهد ان نظرة سريعة على حال التيارات المتطرفة في أوروبا تفيدنا بانها دخلت إلى عدد من الحكومات الأوروبية بما فيها اليونان والمجر وبولندا، وبالإضافة إلى سيطرة جزئية لها في بعض دول الشمال الأوروبي مثل فنلندا والنرويج والسويد، عطفا على وصول مائة عضو من تلك الجماعات للمرة الأولى إلى عضوية البرلمان الألماني «البوندستاج».

السؤال البديهي في هذا السياق «كيف سيضحى شكل العلاقة بين حكومات أوروبا من جهة وبين المسلمين المقيمين على أراضيها من جهة ثانية؟

لتكن إيطاليا تحديدا النموذج والمقياس في هذه القراءة المتواضعة والتي لا تفي هذا الموضوع الشديد الأهمية حقه سيما وان تلك العلاقة سوف تؤثر حتما على مسار العلاقات الأوروبية - العربية أولا بحكم الجغرافيا، وثانيا على العلاقات الأوروبية- الإسلامية بحسب معطيات التاريخ.

يمكن القطع بداية ان أولى نتائج فوز تيارات اليمين المتشدد في أوروبا تتصل بتأثر البلاد بنزعة متطرفة شديدة تجاه المسلمين واللاجئين الذين يكن لهم «حزب الرابطة» عطفا على حركة «النجوم الخمسة» كُرها كبيرا الأمر الذي تجلى مؤخرا في قيام أحد أعضاء الحزب بإطلاق النار على عدد من اللاجئين في شهر فبراير الماضي.

لن يتوقف الأمر عند هذا المنحنى فحسب ذلك انه حتما سوف نرى حالة من حالات التضييق على مسلمي إيطاليا عبر المزيد من القوانين التمييزية، وإرهاصات المشهد تنبئ بان ذلك سيكون كذلك، فقد دفعت سلطات شمال إيطاليا إلى إقرار منع بناء المساجد في الإقليم منذ بضعة أشهر، وقبل شهر من عقد الانتخابات الأخيرة وعد زعيم حزب الرابطة سالفيني الناخبين بانه سيغلق المراكز الإسلامية كافة داخل إيطاليا في حال فوزه، متهما إياها بممارسة نشاطات ممنوعة وغير قانونية.

جزء آخر ودوافع أخرى سوف يستغلها اليمين الإيطالي المتطرف في سعيه لإثارة نعرات مضادة لمسلمي إيطاليا منطلقها هو الهجرة والمهاجرون، وهؤلاء كما تبين الحقائق جلهم من المهاجرين المسلمين سواء أولئك الذين نزحوا بفعل زمن الربيع العربي المكذوب، أو من جراء هجرات الفقر والبؤس من عمق القارة الإفريقية إلى شمالها، مستغلين ثغرات في جسد بعض الدول لاسيما ليبيا، ومن هناك عبر المتوسط تمضي القوارب باللاجئين، وفيما بعضهم يقدر له النجاة والوصول يلقى البعض الآخر حتفه في اليم غرقا ونهاية سيكون هؤلاء وأولئك أمام معارضة مطلقة وإجراءات مشددة تمنع دخولهم إلى البلاد في ظل الدعوات المتشددة التي يقدمها اليمين المتطرف لمنعهم من الوصول إلى الشواطئ وإغلاق الحدود في وجوههم، فاليمين الإيطالي ينادي بترك اللاجئين القادمين من إفريقيا بنوع خاص في البحر المتوسط دون تقديم المساعدة لهم الأمر الذي سيؤدي حتما إلى غرق المزيد من المهاجرين في البحر.

هل يمكن للمرء أن يتخيل ان هؤلاء هم أحفاد الأوروبيين الذين ثاروا على أنظمة بعينها اعتراها جمود دوجمائي وعقائدي ومضوا في طريق الترشيد العقلاني لبناء أوروبا الحريات، وأوروبا التنوير بحلول القرنين السابع عشر والثامن عشر.

تأسس التنوير الأوروبي في تلك الفترة وقد عرفه الفيلسوف الألماني كانط 1724 - 1804 بأنه تحرر الإنسان من اللارشد، واللارشد هو عجز الإنسان من الإفادة من عقله من غير معونة من الآخرين ...كن جريئا في إعمال عقلك.

ما يحدث في أوروبا اليوم من انتكاسة للحريات الدينية والاجتماعية للمسلمين بنوع خاص هو أفضل خدمة يقدمها الأوروبيون لجماعات الظلام والأصولية في العالم كافة، انهم يسلحونهم بأسلحة خطيرة بل مدمرة إذ يعطونهم المبرر الأدبي والأخلاقي لأساطيرهم الزائفة حول كراهية الأوروبيين المتجذرة في نفوسهم للمسلمين وللعرب ومن هذا المنطلق يسهل لهؤلاء ان يجندوا شبابا يافعا يائسا أو محبطا من الأوضاع الأوروبية وعلى هذا الأساس يمضي في طريق التطرف ومن ثم يصبح أداة سهلة طيعه في يد الجماعات الإرهابية الأصولية التي تملا العالم رعبا وقتلا وتدميرا وسفكا للدماء.

هل أوروبا مدعوة بالفعل لمرحلة جديدة يمكن ان نطلق عليها مرحلة «الرينسانس الثاني»؟

باختصار غير مخل التنوير يعني الجرأة في إعمال العقل وعلى هذا الأساس فانه على علاقة عكسية حادة مع الأصوليات بسبب رفضها لأعمال العقل لاسيما في النص الديني، مما ترتب عليه رفض الأصوليات للحداثة، لأن الحداثة هي ثمرة التنوير وحيث ان الحداثة معادلة للثورة العلمية والتكنولوجية التي هي ضمير القرن العشرين فان الأصوليات في هذه الحالة يمكن اعتبارها نتوءا في مسار الحضارة الإنسانية ومن هنا يمكننا التساؤل هل يقبل الأوروبيون بعد أربعة قرون تنويرية حقيقية ان تصاب قارتهم بمثل هذا النتوء الغير إنساني والغير خلاق ؟

هناك في واقع الأمر طبائع جديدة للأشياء وحقائق مستجدة للأمور وتغيرات ديموغرافية سوف تؤثر تأثيرا مؤكدا على واقع أوروبا في قادم الأيام وبنوع خاص لجهة تعداد سكانها ونسبة المسلمين في الغرب عموما... ماذا عن هذه التبدلات والتغيرات؟

قبل بضعة أسابيع كان مركز «بيو» للأبحاث في واشنطن وهو احد اهم المراكز ذات الموثوقية يتناول قضية تعداد سكان أوروبا من المسلمين، ويرى ان هؤلاء سوف يزداد وجودهم على الأراضي الأوروبية، وهناك لذلك أسباب لا يد لمسلمي أوروبا فيها وجلها يتصل برفض شباب أوروبا فكرة الزواج والارتباط والإنجاب الذي كادت معدلاته تصل إلى الصفر في الآونة الأخيرة.

هذه الحقيقة في واقع الأمر ولدت حالة من التعصب والتزمت الكبيرين في الداخل الأوروبي، وروج البعض لطرح أوروبا المتأسلمة خلال فترة زمنية وجيزة ما ولد ولا شك ردات فعل غير عقلانية عند كثير من الجماعات السياسية التي رأت في الأمر كارثة ديموغرافية تهدد جذور أوروبا الدينية والاجتماعية. ولن يتوقف المشهد عند المتهوسين من اليمين بل تعداه إلى جماعات وأفراد حكومية، وما صرح به وزير داخلية ألمانيا الجديد عن المسلمين في ألمانيا بوصفهم لا يمثلون جزءا من التراث الألماني مثال على ذلك.

هل كان نفر من الأوروبيين ضحايا أم انهم كلهم جناة ؟ وثانيا على عاتق من يقع عبء إعادة التنوير للأوروبيين؟ منذ عشر سنوات أو يزيد قليلا والأوروبيين يجدون أنفسهم تحت ضغط هائل من أزمة اقتصادية طاحنة جعلت جلهم غير قادر على الخروج من مأزق الإنفاق اليومي حيث تضاءلت القوة الشرائية للأوروبيين بشكل غير مسبوق.

في هذا الإطار بدا وكأن نظرية الكبت والإسقاط تفعل فعلها في التاريخ الأوروبي المعاصر بمعنى ان الأوروبيين قد أسقطوا كل ما لديهم من إشكاليات على المهاجرين، وقد كان المسلمون منهم في مقدمة الضحايا بوصفهم الأغراب الذين يتطلعون لسلب خيرات الأوروبيين.

ورغم ان رئيس المفوضية الأوروبية «جان كلود يونكر» في خطابه السنوي «حالة الاتحاد الأوروبي» في سبتمبر 2017 قد أشار إلى ان الاتحاد الأوروبي بدا ينتعش من جديد وقال ان «الرياح تعود إلى أشرعة أوروبا» إلا ان اليمين الأوروبي لا يزال يلقي بتبعات المشهد برمته على المسلمين الأوروبيين مهاجرين أو مقيمين.

قطاع آخر من مسلمي أوروبا زاد الطين بلة وهو اعتراف لابد لنا من الإشارة إليه حتى يمكن إعادة الأوروبيين إلى مسار التنوير، إذ روج بعض الأصوليين منهم لاسيما الجماعات المعروفة بميولها المتطرفة والبعيدة عن الإسلام السمح والمعتدل لفكرة أسلمة أوروبا،، ولم يواروا أو يداروا فرحتهم بفرصة ارتفاع عدد المسلمين، وكأن المسلمين في أوروبا في معركة وجودية أو «حرب ديموغرافية» مع الآخرين، ومع الأسف الشديد فان هذه المقولات الغوغائية تصب الزيت أيضا في نار الدعاية المعادية للمسلمين، وتساهم في رفع سقف المخاوف من حضورهم في المجتمعات الأوروبية كما أنها تساهم في إعادة إنتاج المقولات الشعبوية المتطرفة وهي بعيدة فعليا عن سيسيولوجيا المجتمعات الأوروبية.

الأمر الثالث الذي دفع أوروبا اليوم خارج أطر التنوير التقليدية ويزخم تيارات الانتكاسة من اليمين والمتطرفين يرتبط بتصاعد موجات الإرهاب فكل عملية إرهابية تحدث على الأراضي الأوروبية تسحب من تحت أرجل الأوروبيين الداعين للتنوير البساط وتمده واسعا جدا تحت أرجل الشعبويين ما يتطلب مجابهة حقيقية للإرهاب بالفكر قبل الأدوات اللوجستية أوروبيا وعربيا.

هل تراث وميراث أوروبا في امتحان حقيقي لجهة أصالته من العدم؟

القول بانه تراث تنويري أصيل حقيقة لا غبار عليها حتى الساعة والدليل ان بعض الدول الأوروبية لا تزال تغطي هؤلاء الأصوليين من العالم الإسلامي بغطاء الحريات وحقوق الإنسان ولا تزال حرية المعتقد وما تتضمنه من حرية ممارسة الطقوس الدينية حق أساس في كل دساتير أوروبا، لكن المؤكد أيضا أنها دساتر بشرية ما يعني انه حال الخطر يمكن لأصحابها ان يغيروها بموافقة إجماعية أو بأغلبية تقرها الديمقراطيات الغربية.

هنا يضحى الاختبار حقيقيا، والمسألة معقدة ومرتبطة بمناحي اقتصادية واجتماعية، تاريخية ودينية، في عالم بات معقدا بدرجة غير مسبوقة وبخاصة في ظل التشابك المعرفي والمعلوماتي بين الشرق والغرب، الشمال والجنوب.

ويبقى السؤال ما المطلوب من مسلمي أوروبا في قادمات الأيام؟