أفكار وآراء

قمة ترامب - كيم: الاستعراض السياسي الكبير

11 يونيو 2018
11 يونيو 2018

د. صلاح أبونار -

حدث سنغافورة الاستثنائي، ينطلق في التاسعة صباح اليوم الثلاثاء 12 يونيو2018. ومجرد النظر إلى مكان اجتماع القمة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الكوري الشمالي كيم جونج أون، يمنحنا مؤشرا لا تخيب دلالته على طبيعة الاجتماع. لم يتفق الرئيسان على الاجتماع في طوكيو أو في سول، أوثق حلفاء واشنطن في شرق آسيا، بل على الاجتماع في ارض محايدة.

وهكذا لا يبدو الرئيس الكوري: كيم جونج أون، ذاهبا إلى عرين الأسد مثخنا بجراح العقوبات الأمريكية والحصار الدولي السياسي، مهيئا لتوقيع مواثيق الاستسلام وتسليم مفاتيح ترسانته النووية، وسط أجواء احتفالية تحفظ له كرامته. بل سيدخل إلى قاعه الاجتماعات كندّ سياسي.

من أين جاءت تلك الندية بين طرفين هم أصلا بحساب كل الموازين القوي ليسوا أندادا؟ من منطق الحسابات التي اعتمدتها واشنطن في قرارها المرحب لدعوة كيم للقمة. سنجد عرضا رسميا لهذا المنطق في حديث، في حوار أجراه مايك بومبيو وزير الخارجية الراهن، مع برنامج «واجهة الأمة» الأمريكي في 11 مارس الماضي، وكان وقتها رئيسا للمخابرات المركزية الأمريكية. وفقا لما قاله رحبت الإدارة الأمريكية باقتراح الرئيس الكوري الشمالي، لأنه قدم لها مشفوعا بثلاثة تعهدات. فلقد وافق على إيقاف تجاربه النووية والصاروخية، وعلى استمرار أمريكا في تدريباتها العسكرية مع كوريا الجنوبية، وعلى بدء حوار حول ما دعاه بومبيو «نزع السلاح النووي الذي نحتاج إليه». في معرض تعليقها على حديث بومبيو أوردت «جونج باك» من مركز بروكينجز الأمريكي المعروف والمحللة السابقة في المخابرات الأمريكية، عدة تحفظات حول الدلالة المنسوبة لتلك الوعود الثلاثة. أولها تناقضها التام مع ماهو معروف عن سمات شخصية الرئيس الكوري الشمالي، ومسيرته السياسية بمعنى متابعته لخطط تطوير قدراته النووية والصاروخية، وبمعنى مجمل خبرة إدارته لسياسة كوريا الخارجية. وثانيها تناقضها مع مجمل الترسانة التحليلية التي بنتها المؤسسات المتخصصة، المتوفرة لدي صانع القرار والتي تتناول محركات السلوك الكوري، ولماذا يجب رفض العرض الكوري وفرص النجاح المتاحة للاجتماع.بدلا من الاسترشاد بتلك التحليلات انطلقت الإدارة تعد للاجتماع، مستندة إلى فهم ناقص أو زائف لما حدث فعليا في بيونج يانج ودفعها لاتخاذ قرارها. وفي هذا السياق لاحظت على حديث بومبيو، طرحه لما اعتبره تعهدات كيم دونما أي احتمالات تفسير تناقض التفسير الذي تبنته الإدارة الأمريكية.

ماهو أساس هذا التفسير؟ ببساطة حسم ترامب في التعامل مع كوريا، والتأثير المدمر للعقوبات الاقتصادية ونجاحه في محاصرة كوريا الشمالية دوليا، أجبر النظام علي الاستسلام. وقطعا لم يأت هذا النظام مستسلما، خالص النية في استسلامه، بل جاء منتويا المناورة والالتفاف من أجل تفكيك العقوبات. لكن الإدارة الأمريكية تعي ذلك جيدا، وفي نفس الحوار نرى مايك بومبيو يحاول بعث الاطمئنان في نفس المذيعة: «مارجريت: لن نأخذه بكلامه، وسنبقي أعيننا مفتوحة.» ثم يشعر ان هذا قد لا يكون كافيا لإقناعها، فيستطرد: «خلال الايام الماضية قرأت في تاريخ مشاركة المخابرات الأمريكية في المفاوضات السابقة الفاشلة مع كوريا. مارجريت: ثقي أننا لن نكرر أخطاء الماضي.»

وسنجد داخل الإدارة الأمريكية وجوها لا توافق على التأثير المنسوب إلى سياسات ترامب الكورية. وسنجد بالتأكيد فريقا من المحللين يوافقها على جوهر أسباب السلوك الكوري، ولكن الأغلبية لا ترى ان التأثير المنسوب للعقوبات ومصاحباتها، كافيا لفهم القرار الكوري. ويطرحون ان خبرة التعامل مع النظام، والتركيبة السياسية لقياداته، وتاريخه السياسي مع الولايات المتحدة منذ الحرب الكورية، وتحليله لخبرة ومصير بعض النظم المعارضة للولايات المتحدة مثل العراق وليبيا التي سعت لامتلاك السلاح النووي وبالتالي حساباته لفرص بقائه في حالة تخليه عن سلاحه النووي، ومنطق التعبئة السياسية الذي بنى عليه شرعيته وموقع السلاح النووي فيه. كل ذلك لا يرجح صحة الفهم الأمريكي الرسمي.

ويمكن انتقاد التحليل السابق بالقول بمحدودية دلالته. فحديث بومبيو يرجع إلى 11 مارس الماضي، وتعليق جونج بارك نشر بتاريخ 14 مارس، وهناك مياه كثيرة جرت ومقولات تعرضت للمراجعة. غير ان التطورات التي جرت على مدار تلك الأسابيع التي انصرمت لا تخبرنا للأسف بأي جديد علي هذا المشهد السابق. وهناك علي وجه التحديد واقعتان بارزتان، تحملان معهما عند التحليل العميق دلالة مغايرة تماما. واقعة مبادرة كوريا الشمالية بتدمير ما دعته موقعها الوحيد للاختبارات النووية في «بيونجي ري» ، وواقعة إلغاء ترامب لاجتماع القمة في خطاب أرسله إلى نظيرة الكوري الشمالي، والمفارقة ان كلاهما على الاختلاف الظاهر في دلالاتهما حدثا في 24 مايو.

كانت بيونج يانج قد أعلنت قبل ذلك بأسابيع، عن نيتها تدمير الموقع كبادرة لإثبات حسن نواياها. وعندما حدث التدمير على مرأى من صحافة العالم، اختلفت آراء المعلقين حول مغزاه الحقيقي. هناك من ردد رأي قديم، يقول ان الموقع كان قد خرج فعليا من العمل، بعد أضرار أصابته خلال التفجير النووي السادس والأكبر. إلا ان هذا التفسير وجد من يدحضه علميا، ونموذج ذلك تحليل نشره موقع ناشيونال انتريست الأمريكي. وهناك في المقابل من رأي وقوع التدمير، ولكن دون الجزم بمداه وبالتالي خروج الموقع من نطاق العمل. وباختصار ثمة عنصر خداع في العملية، يجعل منها مجرد إجراء استعراضي. وتفسير ثالث يرى ان التدمير حدث بالكامل، ولكن الأمر في النهاية يظل واقعة استعراضية أو رمزية، لأن القرار يتعلق بموقع للاختبار النووي وليس بموقع للتخصيب.

وفي اليوم نفسه وعلى عكس التوقعات، ارسل ترامب خطابا إلى كيم جونج اون يخبره قراره إلغاء اجتماعهما في 12 يونيو. ولم يكن هناك أي مبرر موضوعي للقرار، سوى هجوم لفظي حاد شنه شوي سون هوي الدبلوماسي الكوري الشمالي الكبير، ردا على تصريحات لمايك بينس نائب الرئيس الأمريكي . وبمعزل عن معقولية القرار، كانت صياغه الخطاب نفسها غريبة ومجردة من الاتساق المنطقي والحسم اللغوي. مزيج من الشكر والعرفان لبوادر التعاون والحوار الذي دار، والحزن لضياع فرصة تاريخية كبرى، ووسط هيمنة تلك العناصر تغيب قوة الأسباب الداعية لإلغاء القرار والحسم في التعبير عنه، ويطل التهديد العسكري برأسه على استحياء. كتب بروس جونز في موقع بروكينجز يصف الخطاب ، بقوله: «خطاب لا مثيل له في تاريخ الدبلوماسية الدولية»، ويضيف انه مكتوب بروح نزقه لا تجد تضاربا بين المبادرة باتخاذ قرار بهذا الحجم دون أسباب وافية، ومخاطبة الشريك الآخر بعبارات من نمط: «إذا غيرت رأيك بشأن هذا الاجتماع الهام جدا، من فضلك لا تتردد في الكتابة إلى أو مكالمتي.»

ولم يكن الأمر في حاجة إلى جهد يذكر، لكي تعود مياه القمة إلى مجاريها، وتتواصل الجهود الرامية للتمهيد لها. وهكذا في 26 مايو اجتمع كيم مع الرئيس الكوري الجنوبي مون، وصدر بعد الاجتماع بيان عبر عن استمرار رغبة كيم في الاجتماع مع ترامب. وفي اليوم التالي حل وفد دبلوماسي أمريكي في بيونج يانج، وجرت مباحثات حول التجهيز للقمة. وبعد عدة ايام قليلة زار دبلوماسي كوري شمالي كبير واشنطن واجتمع بالرئيس الأمريكي، وبعد الاجتماع كانت تصريحات ترامب دافئة تماما.

ويعني ماسبق حاجتنا إلى تفسير بديل، للأسباب التي دفعت بكيم صوب مبادرته. فيما يبدو حقق خلال العامين الأخيرين إنجازات واضحة، تبدت في التفجير النووي السادس في سبتمبر 2017، ونجاح سلسله تجارب إطلاق الصواريخ وصل مدى آخرها سواسونج 14 في يوليو 2017 إلى 8000 كيلومتر، ونجاح في تصغير الرؤوس النووية بما يعني إمكانية تحميلها للصواريخ، والنجاح في الانتقال من تخصيب اليورانيوم الى تخصيب البلوتونيوم.

ومن المرجح ان تلك الخطوات منحته قدرا من الشعور بالثقة، دفعته للعودة إلى المسار الذي استخدمته كوريا الشمالية من قبل: التهدئة لالتقاط الانفاس وفك الحصار عبر المفاوضات. ثم وجد كيم في التوترات الإقليمية المصاحبة لمجيء ترامب، وتولي رئيس جديد السلطة في سول، فرصة مواتية لخلق تحالف مع سيول، ودعم تحالفه الإقليمي مع الصين التي وجدت نفسها في مرمى نيران السياسة الأمريكية الجديدة. هكذا تقدم باقتراحه في سياق علاقاته النامية مع سول، وهناك وجد آذانا صاغية يحركها الخوف من انفلات الأمور، وحيوية سياسية جديدة راغبه في ممارسة أدوار سياسية، وتوجس من الانقلابات الحادة التي تمر بها السياسة الأمريكية. و كل هذا يفسر لنا الدور المحوري الذي لعبته كوريا الجنوبية في تحريك الأحداث. وفي بكين وجد ايضا آذانا صاغية. فمع تصاعد الصراع مع واشنطن ودخوله مرحلة الحرب التجارية، وجدت بكين نفسها مجبرة على التخلي عن التعامل مع تحالفها مع بيونج يانج باعتباره ضرورة إجبارية، صوب تصور آخر، سيكسب العلاقات طابعا أكثر حيوية ودعما، الأمر الذي منح تحركاته سندا صينيا.

وفي تصورنا لا تبدو القمة مرشحة اليوم لإطلاق تحولات جذرية. بل فقط لإطلاق عملية تفاوضية ممتدة، تنطوي على تنازلات متبادلة من نمط إيقاف التجارب النووية والصاروخية، مقابل رفع مساحة من العقوبات الأساسية. وإذا حدث وأطلقت تحولات جذرية، فلن تكون لها في ظل النظام الكوري الشمالي الراهن أي حظ من التطبيق الحقيقي.