أفكار وآراء

ما لم يقله مؤشر السلام العالمي

10 يونيو 2018
10 يونيو 2018

أ.د. حسني نصر -

من حق الدول العربية التي احتلت مراكز متقدمة في مؤشر السلام العالمي السنوي الذي صدر نهاية الأسبوع الماضي عن معهد الاقتصاد والسلام التابع لجامعة سيدني بأستراليا، أن تحتفي بذلك، وأن تخرج وسائل إعلامها لتبشر مواطنيها بإحراز تقدم ملموس سواء على المستوى العالمي أو على المستوى العربي. ففي هذه الأيام المباركة التي نستعد فيها لاستقبال عيد الفطر المبارك، نحتاج إلى ما يسعد الناس ويطمئنها ويرفع المعنويات، ويحفز الشعوب والدول للحفاظ على أمنها واستقرارها وسلامها الداخلي، في عالم اصبح باعتراف التقرير نفسه «أقل سلاما عن أي وقت مضى خلال العقد الأخير، خاصة في منطقة الشرق الأوسط».

من هذا المنطلق قد يبدو احتلال السلطنة المركز الخامس عربيا وشرق أوسطيا، والثالث والسبعين عالميا من بين 163 دولة شملها التقرير، مرضيا إلى حد كبير، خاصة إذا علمنا أن 92 دولة تراجعت أوضاعها السلمية خلال العام الماضي ، وزاد عدد ضحايا الحروب بنسبة 264 بالمائة، كما أن دول أوروبا وأمريكا الشمالية أصبحت أقل أمنا وسلاما. وبلغت كلفة العنف في العالم خلال العام الماضي نحو 15 تريليون دولار، تمثل 12.4 بالمائة من الناتج العالمي الإجمالي، وهو ما يعني نحو ألفي دولار لكل شخص من سكان العالم، كما زاد عدد اللاجئين في العالم وأصبح يفوق عدد سكان المملكة المتحدة ونصف عدد سكان روسيا، ويمثل 1 بالمائة من سكان العالم لأول مرة في التاريخ الحديث. ولعل هذه النتائج المخيبة للآمال هي ما دفعت ستيف كاليليا مؤسس ورئيس المعهد الذي يصدر المؤشر إلى القول «إن القضاء علي السلام أصبح أسهل كثيرا من بنائه».

في المقابل قد يبدو هذا المؤشر باعثا على الدهشة والرفض للبعض الآخر، خاصة أولئك الذين يعيشون مثلنا في دول يعمها السلام والأمان، مثل سلطنة عمان. ولذلك نرى أن المؤشر لم يكن منصفا عندما وضعها في هذه المرتبة المتوسطة عالميا، على أساس أن مستوى السلام والأمن الحقيقي في السلطنة يفوق هذا المركز بكثير، خاصة إذا تم مقارنته بنظيره في دول عربية وعالمية أخرى سبقتها في الترتيب العالمي.

دعونا نقول: إن ترتيب السلطنة جاء ضمن النصف الأول من دول العالم في السلام العالمي، فيما جاءت غالبية الدول العربية والشرق أوسطية- باستثناء الدول الأربع التي سبقت السلطنة- في النصف الثاني من القائمة، باستثناء تونس التي جاءت في المركز الثامن والسبعين، أي بعد السلطنة بخمسة مراكز، بل أن خمسا منها- للأسف- تذيلت القائمة، وهي على الترتيب: سوريا والعراق والصومال واليمن وليبيا ومعهم أفغانستان وجنوب السودان.

بالطبع ليس الهدف من هذا المقال هو التشكيك في سلامة مؤشر السلام العالمي، ولكن من المهم أن نعرف أصل هذا المؤشر والمعايير التي يستند عليها في ترتيب الدول وفقا لمستوى السلام فيها، حتى نستطيع الحكم على درجة موضوعيته، وحتى نتأكد أنه بريء من الانحياز خاصة في ترتيب الدول العربية.

يمثل تقرير عام 2018 النسخة الثانية عشرة من مؤشر السلام العالمي الذي يصنف الدول حسب مستوى سلميتها، ويصدر عن مركز الاقتصادات والسلام. ويُعرف المعهد نفسه على موقعه الإلكتروني بأنه رؤية إنسانية وبيت للسلام ودليل للسلام العالمي والتنمية لهؤلاء الذين يريدون تغيير العالم. ويضم المعهد باحثين ومتخصصين وخبراء ومستشارين في الاتصال والسلام من دول مختلفة، ويقع مركزه الرئيس في سيدني بأستراليا، وله مكتبان في نيويورك بالولايات المتحدة، ومكسيكو سيتي بالمكسيك.

أما المؤشرات التي يعتمد عليها فتتمثل في 23 مؤشرا كميا ونوعيا تم جمعها في محاور ثلاثة رئيسية هي: الصراعات المحلية والعالمية الحالية التي تشارك فيها الدولة ، ومستوى الأمن والأمان الداخلي، والقدرات العسكرية. وتشمل المحاور الفرعية عدد الحروب الداخلية والخارجية، وتقديرات أعداد الوفيات الناجمة عن الحروب الخارجية، وكذلك الحروب الداخلية، ومستوى الصراع الداخلي، والعلاقات مع البلدان المجاورة، ومستوى ثقة المواطنين في بعضهم البعض، وعدد المشردين كنسبة مئوية من السكان، وعدم الاستقرار السياسي، ومستوى احترام حقوق الإنسان، واحتمال وقوع أحداث إرهابية، وعدد جرائم القتل، ومستوى جرائم العنف، بالإضافة إلى عدد المسجونين، ومستوى الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.

في تقرير العام الماضي 2017 كانت السلطنة تحتل المركز السبعين عالميا وفي تقرير العام الحالي تراجعت إلى المركز الثالث والسبعين. وفي تقديري أن التقييم الذي منحه المؤشر للسلطنة في محوري الصراعات الداخلية والخارجية، والأمن المجتمعي لم يكن عادلا على الإطلاق. وهذا ما يدفعنا إلى الشك في سلامة المعلومات التي يحصل عليها معدو التقرير. إذ لا يمكن تصور أن تحصل عُمان على معدل مرتفع في الصراعات الداخلية والمشاركة في الصراعات الخارجية، وهي الخالية- بحمد الله ثم حكمة سلطانها ووعي شعبها- من هذه الصراعات، وتقوم سياستها الخارجية علي عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى ولم تشارك في أية حروب خارجية، وبالتالي كانت تستحق أن تحصل على معدل مشابه لما حصلت عليه أيسلندا التي احتلت المركز الأول كأكثر الدول سلاما في العالم، وهو نفس ما يصدق على محور الأمن المجتمعي الذي لا يقل بأي حال عن الأمن المجتمعي في دول مثل نيوزلندا والنمسا والبرتغال والدنمارك وكندا والتشيك وسنغافورة واليابان وإيرلندا التي احتلت المراكز من الثاني إلى التاسع. وأجزم أن الشعور بالأمان في شوارع مسقط عاصمة السلطنة، يفوق بمراحل نفس الشعور في أية عاصمة من عواصم الدول التي احتلت المراكز الأولى. وإذا استثنينا الدول العشر الأولى التي اشرنا إليها فإنه لا يمكن تصور أن يكون مستوى السلام والأمن في دول مثل نيكاراجوا والأرجنتين وسيرلانكا وفيتنام وإندونيسيا وزامبيا ومدغشقر وبولندا وبتسوانا ورومانيا أعلى من السلطنة.

في ظل ذلك يجب ألا نستبعد وجود أهداف خفية من مثل هذه التقارير التي ترتدي عباءة العالمية. إذ يتم علي أساسها تقييم دول العالم بمعايير موحدة لا تراعي الفروق السياسية والاجتماعية والثقافية بين شعوب ودول العالم، ويظهر فيها التحيز الواضح للدول الغربية المتقدمة على حساب الدول النامية التي تكافح لكى تتبوأ مكانتها العالمية، ومع ذلك فإنها تؤثر علي مستقبل هذه الدول والشعوب. وعلى سبيل المثال فإن الاستثمار الأجنبي الذي تطمح كل دول العالم إلى الحصول على جزء منه يتم ربطه بمثل هذه التقارير، وهو ما يحرم دول كثيرة من تطوير اقتصاداتها وتعزيز الخدمات الاجتماعية التي تقدمها لمواطنيها.

رغم كل ما سبق ورغم عدم الرضا عما ورد في هذا المؤشر، فان علينا أن نحمد الله كثيرا على نعمة السلام والأمن التي تعم السلطنة بفضل الله ثم بفضل قائدها جلالة السلطان قابوس بن سعيد حفظه الله ورعاه، وشعبها الذي يتخذ من السلام والتسامح منهجا للحياة. حفظ الله عمان قائدا وشعبا وأعاد الله عليها هذه الأيام المباركة وهي ترفل في عز ونماء واستقرار دائم.