روضة الصائم

تأدية الأمانات إلى أصحابها

08 يونيو 2018
08 يونيو 2018

د.أحمد بن جابر المسكري -

أحييكم أيها القراء الكرام من جديد في هذه السلسلة، وهنيئا لكم بالصيام والقيام وصالح الأعمال، وسنتناول موضوعا جديدا من كتاب الله العزيز، وهو آيات تأدية الأمانات من سورة النساء، يقول المولى الكريم سبحانه وتعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا {58}». وقد ورد في مناسبة نزولها: أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال: أرني المفتاح - أي مفتاح الكعبة - فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: هات المفتاح يا عثمان، فقال: هاك أمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها حتى فرغ من الآية.

يقول الشيخ محمد رشيد رضا في المنار: «الظاهر أنها نزلت قبل فتح مكة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلاها يومئذ استشهادًا، وهذه الرواية عن ابن عباس لا تصح، فقد ذكرنا من قبل أن المحدثين قالوا: إن أوهى طرق التفسير عن ابن عباس هي طريق الكلبي، عن أبي صالح، قالوا: فإن انضم إليها مروان الصغير فهي سلسلة الكذب، وفي الرواية بحث من جهة المعنى أيضًا، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - أولى بمفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، ومن كل أحد، فلو أعطاه للعباس أو غيره لم يكن فاعلًا إلا ما له الحق فيه، ومن أعطاه إياه يكون هو أهله وأحق به، وليس هذا من باب: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم (33 : 6)، بل لأن الكعبة من المصالح العامة، وإنما كان يكون من هذا الباب لو كان المفتاح مفتاح بيت عثمان بن طلحة نفسه ونزع ملكه منه وأعطاه آخر». وإضافة لما ذكره صاحب المنار فالمعروف يوم فتح مكة أن القرشيين كانوا خائفين على أنفسهم من انتقام الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، ومعاقبتهم على ما اقترفوه من جرائم متتابعة عليه وعلى أصحابه الكرام، فأنى لعثمان بن طلحة أن يتجرأ على منع الرسول صلى الله عليه وسلم المفتاح، كما ورد في بعض الروايات، والله أعلم.

وجملة (إن الله يأمركم) صريحة في الأمر والوجوب، فهي خبر بمعنى الإنشاء. والخطاب لكل من يصلح لتلقي هذا الخطاب والعمل به من كل مؤتمن على شيء، ومن كل من تولى الحكم بين الناس في الحقوق. والأداء حقيقته: تسليم ذات لمن يستحقها، ويطلق الأداء مجازا على الاعتراف والوفاء بشيء، أصل الأمانة اللغوي من الفعل الثلاثي المجرد: أمن يأمن أمنا وأمانة أي: اطمأن، لأن الوديعة توضع عند من يأمن الإنسان عليها من الضياع. والأمانة حقيقة: الشيء الذي يجعله صاحبه عند غيره ليحفظه إلى أن يطلبه منه، والأمانة مجازا: حق عند المكلف يتعلق به حق غيره، وبهذا تعلم أنه لا يخلو مكلف من تحمل أمانة.

فالذي يتعلم العلم قد أودع أمانةً وأخذ عليه العهد بالتعامل والعرف بأن يؤدي هذه الأمانة ويفيد الناس ويرشدهم بهذا العلم، وقد أخذ الله العهد العام على الناس بهذا التعامل المتعارف بينهم شرعًا وعرفًا بنص قوله: «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه»، (آل عمران: 187)، ولذلك عد علماء أهل الكتاب خائنين بكتمان صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجب على العالم أن يؤدي أمانة العلم إلى الناس، كما يجب على من أودع المال أن يرده إلى صاحبه، ويتوقف أداء أمانة العلم على تعرف الطرق التي توصل إلى ذلك، فيجب أن تعرف هذه الطرق لأجل السير فيها، وإعراض العلماء عن معرفة الطرق التي تؤدى بها هذه الأمانة بالفعل هو ابتعاد عن الواجب الذي أمروا به، وإخفاء الحق بإخفاء وسائله هو عين الإضاعة للحق، فإذا رأينا الجهل بالحق والخير فاشيًا بين الناس واستبدلت به الشرور والبدع، ورأينا أن العلماء لم يعلموهم ما يجب في ذلك فيمكننا أن نجزم بأن هؤلاء العلماء لا يؤدون الأمانة، وهي ما استحفظوا عليه من كتاب الله، ولا عذر لهم في ترك استبانة الطريق الموصل إلى ذلك بسهولة وقرب، أفيترك الجاهلون بالسنن العاملون بالبدع حتى يطرقوا أبواب العلماء في بيوتهم أو مدارسهم، مع العلم بأنهم لا يفعلون؟!

ولا يخرج علماء الدين من تبعة الكتمان والخيانة في أمانة الله بتصديهم لتدريس كتب الفقه والعقائد، فإن هذه الكتب لا تفهمها العامة ولا تجب عليها معرفتها؛ لأنها وضعت للمنقطعين للعلم يستعينون بها على القضاء والإفتاء في المسائل التي لا يحتاج إليها كل الناس دائمًا، ومنها ما تمر الأعصار ولا تقع، بل منها ما يستحيل وقوعه، فيجب على العلماء أن يتصدوا لتعليم الجمهور ما لا يسع أحدًا منهم جهله وأن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر من أقرب الطرق وأسهلها، وإنما يعرف ذلك بالتجربة والاختبار، ولله در الشاعر الذي قال: لو صح منك الهوى أرشدت للحيل. وإلى اللقاء في الغد بمشيئة المولى سبحانه وتعالى.