العرب والعالم

مجندون سوريون يستعيدون حياتهم المدنية بعد سنوات على الجبهات

07 يونيو 2018
07 يونيو 2018

دمشق- (أ ف ب): بعد ثماني سنوات قضاها متنقلا من جبهة إلى أخرى، استبدل سونيل علي قبل أيام بزته العسكرية بثياب مدنية، بعدما أعلنت دمشق مطلع الشهر الحالي تسريح مجندي الدورة 102 الأقدم في الجيش السوري.

والتحق علي (34 عاما) مع الآلاف من الشبان في الأول من مايو 2010 بصفوف الجيش، لتأدية الخدمة الإلزامية، وكان من المفترض أن تنتهي بعد عام ونصف إلا أنه مع اندلاع النزاع، امتدت هذه الخدمة طيلة ثماني سنوات، خاض خلالها مع رفاقه عشرات المعارك وتنقّلوا على الجبهات.

يتفحص علي صورة تذكارية التقطها قبل أيام مع رفاقه العسكريين قبل مغادرتهم وهم يرتدون ثيابهم المدنية الملونة بعدما كان اللون العسكري الأخضر يطغى على صورهم السابقة.

ويقول ابن مدينة حمص لوكالة فرانس برس: «فرحتي اليوم مزدوجة، أولا: لأنني سأترك أخيرا البندقية والسواتر الترابية، وثانيا: لأن الخطر زال عن مدينتي وكثير من المدن السورية»، ويضيف: «بإمكاني اليوم أن أستريح وأنا مرتاح الضمير والبال».

وجاء قرار تسريح هذه المجموعة المقاتلة بعدما تمكّن الجيش السوري من تحقيق انتصارات متلاحقة على جبهات عدة، آخرها تأمين العاصمة ومحيطها بشكل كامل، للمرة الأولى منذ عام 2012.

وتوفر السيطرة على تلك المناطق عديدا للجيش، جراء تخلف عدد كبير من الشبان المقيمين فيها عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية خلال السنوات الماضية.

بالكاد يتمكن علي من التقاط أنفاسه قبل أن يرنّ هاتفه مجددا، وهو يتلقى اتصالا تلو الآخر ويشكر المتصلين به مرددا باللغة المحكية «الله يبارك فيك»، ويرد على اتصال أحد أصدقائه من المجندين قيد الخدمة «نحن السابقون، وأنتم ستلحقون بنا، المعارك الكبيرة انتهت، ولا داعي للقلق بعد اليوم». في حقيبته التي أحضرها معه إلى المنزل، وضع علي كيسا أسود اللون فيه عُدة احتساء المتة، مشروب تقليدي ساخن في سوريا، ويضيف «سأحتفظ بها لأنها رافقتني طيلة خدمتي العسكرية».

قبل اندلاع النزاع، كانت السلطات تلزم الشبان عند بلوغهم سن الـ18 تأدية الخدمة الإلزامية في الجيش لمدة تتراوح من عام ونصف إلى عامين، وبعد انتهاء هذه المدة، يُمنح كل شاب رقما في الاحتياط، ويمكن للسلطات أن تستدعيه في أي وقت للالتحاق بصفوف الجيش خصوصا في حالات الطوارئ. لكن بعد اندلاع النزاع، بات هؤلاء الشبان يخدمون لسنوات طويلة، وخسر الجيش السوري خلال سنوات الحرب وفق محللين أكثر من نصف عديده الذي كان يبلغ 300 ألف جراء مقتلهم أو إصاباتهم أو انشقاقهم أو سفرهم خارج سوريا.

لطالما طمح الشاب محمد دامور لأن يصبح صحفيا، لكن حلمه تأجل بعدما امتدت خدمته العسكرية.

ويقول لفرانس برس أثناء تجوله في أحد أسواق دمشق والتقاطه الصور: «أخرتني الحرب عشر سنوات. تسرحت اليوم». ويضيف: «كان يُفترض أن أنهي دراستي الجامعية وأنا في الثانية والعشرين من عمري، اليوم أصبحت في السابعة والعشرين وما زلت طالب سنة أولى في كلية الإعلام». في شمال البلاد، على مدخل مدينة حلب، زيّنت عائلة المجند ماهر دارو سيارة سوداء من طراز مرسيدس بالورود الحمراء والبيضاء، وانتظرت فرقة شعبية مع الطبول، وصوله بفارغ الصبر بعد تسريحه مطلع الشهر الحالي من الجيش. فور وصوله، يبدأ قرع الطبول وتزغرد والدته وشقيقاته فرحا بينما يطلق شبان النار في الهواء ابتهاجا بعودته سالما.

ويقول ماهر (30 عاما) بعدما يستعيد مشاهد استقباله عبر مقطع فيديو على هاتفه لفرانس برس: «إنها ولادة جديدة، عرس حقيقي، فمن يذهب إلى الحرب مفقود، ومن يعود منها مولود».

يوزّع ماهر الحلوى على أقاربه الذين تجمعوا لاستقباله والابتسامة العريضة لا تفارق وجهه أثناء معانقته أصدقاء الطفولة، يمازح أحدهم ويسخر من الشيب الذي غزا لحيته.

ويقول: «إنها ثماني سنوات وشهرين ويومين فقط، لو كنت متزوجا، لكان ابني الآن في الصف الثالث الابتدائي».

يجلسُ ماهر في مضافة كبيرة حتى وقت متأخر من الليل، بعدما بقي عدد قليل من أصدقائه يروي لهم تنقله على الجبهات.

ويقول: «شتّان بين من التحق بالخدمة العسكرية قبل ثماني سنوات، وبين من ينضم الآن، باتت الحرب الآن خمس نجوم، كل المناطق التي خضتُ فيها المعارك باتت آمنة: دمشق وحمص (وسط) واللاذقية (غرب)».

ويوضح: «الخدمة الإلزامية اليوم مريحة وخالية من الخطر الحقيقي، شاهدنا الموت في معارك الغوطة والقصير (وسط) وكسب (غرب)، أما اليوم فالجميع يشرب المتّة مرتاحا». في غرفته داخل بلدة سعسع في ريف دمشق، ينزوي محمد علاء (31 عاما) وهو اسم مستعار بعدما تبلغ نبأ تسريحه من الجيش، ويردد بحيرة «إلى أين أذهب؟».

منذ عام 2012، انقطعت سبل التواصل مع عائلته وكانت مقيمة في مدينة الرقة (شمال)، التي توالت مجموعات مختلفة على السيطرة عليها من فصائل معارضة وصولا إلى تنظيم داعش.

ومنذ أكتوبر، باتت قوات سوريا الديموقراطية المؤلفة من فصائل كردية وعربية تدعمها واشنطن، تسيطر على المدينة بعد طرد التنظيم منها.

ويقول محمد لفرانس برس: «أمضيت كل إجازاتي في قطعتي العسكرية، كانت ملاذي الآمن، فيها تأمن مأكلي ومشربي، لكن بعد اليوم لا أدري أين سأنام وكيف سآكل وأشرب». قبل التحاقه بالخدمة العسكرية، عمل محمد مزارعا في أرض جده في مدينة الرقة، لكنه اليوم لا يعلم شيئاً عن الأرض أو منزل العائلة بعدما نزح أهله جميعا إلى تركيا مع تصاعد حدّة قصف التحالف الدولي على مدينته قبل أكثر من عام.

بحسرة، يشرح محمد الذي يضع سلسالا حول عنقه فيه صورة والدته: «معظم أصدقائي سعداء، لكن هناك من فقد قدرته على العمل في أي مهنة أو وظيفة سوى القتال».

ويضيف: «كانت الخدمة العسكرية أشبه بوظيفة ثابتة تؤمن دخلا مقبولا لمن ليس لديه مأوى».