1355449
1355449
روضة الصائم

«المصنف»: المتعلم مثل السراج .. كلما كان دهنه أصفى وفتيلته أغلظ كان أضوأ وأنور

07 يونيو 2018
07 يونيو 2018

كتب عمانية -

القاهرة - العزب الطيب الطاهر -

يستمر إبحارنا في كتاب «المصنف» من تأليف أبو بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي السمدي النزوي (557 هـ).. (1162مـ) ويتوقف عند القياس كأحد مصادر إصدار الفتوى أو الفتيا وفق مفردة المؤلف والذي يقول إنه «لا يجوز مما يقول إلا على علة، ولا يجوز أن يكون على المعلول، وهو أن يرد حكم المسكوت عنه إلى حكم المنطوق به لعلة تجمع بينهما، ولا يجب تسليم العلمة لكل من ادعاها ولا تسلم إلا بدليل، ولو كان تسليمها بغير دليل لجاز لكل واحد أن يدعى ما يشاء ويقبل به.

ويبدى المؤلف اهتماما مكثفا بقضية الفتوى ومن يجوز له القيام بها، وهو أمر من الأهمية بمكان في زماننا حيث تفاقمت ظاهرة الإفتاء لمن لا يمتلكون أدواتها مع انتشار الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي في شبكة النت وغيرها فتحولت المسألة إلى معضلة تؤرق بال صناع القرار الديني وباتت تستوجب وضع الشروط الصارمة حتى لا يتقدم بالإدلاء برأيه من غير من العلماء الثقاة.

ويبدأ المؤلف سلسلة الأبواب التي تتناول الفتوى أو الفتيا بالقول «وجدت في بعض الآثار أنه لا يجوز الأخذ بفتيا قومنا ولا يجوز الفتيا لأحد غير العدل الولي ويورد مسألة بالغة الأهمية فإذا كان رجل من أهل الولاية معروفا بالصلاح والتزهد لأنه ليس في عداد الفقهاء وطلاب العلم هل يجوز له أن يؤخذ عنه العلم قال: لا قلت أليس من أهل الولاية والصلاح قال بلى ولكن مثل هذا يظن به ألا يضبط من العلماء ما سمعه من جوابهم وخاصة ما يكون من مشكل للجواب من دقيق العلم وخفيه.

ويورد الكتاب مأثورا عن النبي سليمان الناس عالم ومتعلم وجاهل، فأما العالم فمستغن بعلمه وهو يزداد كل يوم بصرا وعلما فإذا فقه أبصر وإذا أبصر علم وإذا عمل رجا» وهذه هي الغاية القصوى، وأما المتعلم فهو كل يوم في زيادة مثله مثل السراج، كلما كان دهنه أصفى وفتيلته أغلظ كان أضوأ وأنور وأما الجاهل فيزداد كل يوم جهلا إلى جهله ولا يتواضع فيعلم ولا يبصر في أبواب الحكمة حقا.كما يورد مقولة ذات معنى «وممن أراد أن يستضيئ بنور الحكمة فليألف بها أهل الفهم والعقل ومن لا يظهر تواضع الحكمة فقد استخف بحقها ومن استخف بحقها نزع الله منه بركة العمل فإن الإيمان عافية القلب فإذا سكنت العافية في القلب داوته ويؤكد المؤلف عن لا يسع أحد إلى أن يفتى بالرأي إلا من علم ما في كتاب الله وسنة رسوله وآثار أئمة العدل ومن علم في شيء من الأمور من فن من فنون العلم أو في باب من أبوابه أو في شيء منه بعينه حكم ما جاء فيه من الكتاب والسنة وإجماع المهتدين من الأمة فهو عالم في ذلك الشيء فإذا أبصر وجه الرأي والقول بالرأي فيه واهتدى له كان فقيها فيه وعالما له وكان من أهل الرأي فيه كما كان غيره من العلماء.

وقد استطرد الكتاب كثيرا في هذه المسألة لأنه يراها ذات تأثير واسع متناولا الفتيا وجواز الأخذ بها وعن من تؤخذ وقبولها وقيام الحجة فيها وفي شأن جواب المستفتي في العلم ومن يجوز له أن يفتى بالرأي وضمان المفتى مستحضرا في ذلك كل ما يتعلق بها من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ووقائع التاريخ وما ذكره بعض السلف الصالح واضعا بعض المسائل التي تأخذ شكل المناقشة والتفنيد لمختلف جوانبها المتعلقة بها حتى تتضح الصورة بكل أبعادها للقارئ في لغة يسيرة قابلة للفهم والتفاعل معها.

وكما أشرت في السابق فإن الجزء الثاني من كتاب المصنف يحتوى على كل ما يفيد حياة المسلم في شؤونه الدينية والدنيوية من تبيان لمختلف الإحكام المتصلة بنظافته الشخصية وكيفية التعامل مع مفردات حياته اليومية على نحو شامل ولكن سأتوقف عند بعض الأبواب التي لها صلة بما هو غير مألوف في الحديث عنها بكثرة، فقد لفت انتباهي باب في أدب النفس ووفقا للمؤلف فإن الأدب طبقا لقول بعض الحكماء نوعان أدب شريعة وأدب سياسة وأدب الشريعة ما أدى الفرض وأدب السياسة ما عمر الأرض وكلاهما يرجع إلى العدل كما يقال أن الأدب أدبان أدب نفس وأدب درس فأدب النفس أفضل والإنسان إليه أحوج وهو به أحسن وله أزين ويقول الحكماء في هذا الصدد أن الأدب صورة العقل فصور عقلك كيف شئت وقيل من أحب الأدب تواضع له ومن أبغضه تكبر عنه ومن حق النفس على الإنسان أن يأخذها بالآداب الجزلة والأفعال الجميلة فهي أوجب الحقوق عليه وأليق الأشياء إليه وهو مطالب بأنه يهذبها ويؤبدها في سائر أفعاله. ويقول المؤلف: وليكن كل أمرئ لنفسه مصلحا ناصحا مؤدبا فقد قال بعض الحكماء أصلح نفسك يكن الناس تبعا لك وينبغي للعاقل أن يروم نفسه بمعاناة صعب الأمور ليمرن عليها فربما احتاج اليها كان عليها قادرا ولها صابرا فليس الرخاء بدائم ولا المرء من شدة بسالم ومن الآداب التي يشدد عليها الكتاب ترك الإعجاب بالنفيس فإنها آفة الألباب وليجتنب المدح فإنه من أسباب الإعجاب، فقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يمدح رجلا فقال قطعت مطاه لو سمع ما أفلح بعدها والمطا الظهر.

وفى السياق ذاته تحدث المؤلف عن حسن الخلق وهي قيمة دينية ودنيوية شهدت في العقود الأخيرة تقلصا في مساحتها وكذلك آداب المجالسة والتي قد ينظر إليها البعض بقدر من الاستخفاف لكنها من الأمور الاجتماعية التي تحافظ على العلاقات الإنسانية وتحمى المجتمعات من أي اختراق لمنظومتها القيمية.