أفكار وآراء

قرار الانسحاب من اتفاقية إيران: الأسباب والاحتمالات

04 يونيو 2018
04 يونيو 2018

د. صلاح أبونار -

كان المشهد السياسي الأمريكي والدولي عشية إعلان ترامب لقراره بالانسحاب من اتفاقية إيران النووية، يكاد أن يكون صورة طبق الأصل من مشهد إعلان قرار الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ. رفض أمريكي داخلي عام وحاسم من غالبية مؤسسات النخبة الأمريكية الإعلامية والأكاديمية والسياسية، يوازيه سخط أوروبي عارم ورحلات لكبار القادة الأوروبيين إلى واشنطن في محاولة يائسة لإيقاف القرار، وتصريحات مستنكرة من موسكو إلى بكين، ومناشدات جوتيريش التقليدية للرئيس الأمريكي أن يبقى في الاتفاقية.

توجت الاتفاقية المسماة رسميا: «خطة العمل الشاملة والمشتركة»، جهد عمل تفاوضي تواصل على مدى يزيد عن عقد من الزمان، كان لسلطنة عمان فيه دور بارز اقر بأهميته الجميع. ومنذ بداية المفاوضات كانت تحركها قوة دفع دولية، تمثلت في الدول الخمس أعضاء مجلس الأمن الدائمين ومعهم ألمانيا. وعندما انتهى الاتفاق عليها حظيت بإجماع سياسي دولي، واكتسبت فورا شرعية دولية بقرار مجلس الأمن رقم 2231 لسنه 2015. والحاصل انها لم تولد فقط من رحم إجماع دولي، بل ولدت أيضا متوجه بشرعية رسمية من أعلى هيئات الأمم المتحدة.

وفي تكوينها كانت عملية تبادلية متوازنة. فلقد وافقت إيران على وضع قيود على برنامجها النووي، تمثلت في تخفيض حاد لما تمتلكه من أجهزة طرد مركزي بنسبة 75%حتى عام 2026، وتخفيض مخزونها من اليورانيوم بنسبه 98%حتى عام2031، والالتزام بنسبه تخصيب لا تتعدى 3.67%، والقبول بنظام تفتيش دولي صارم، وصفته وكالة الطاقة الذرية بكونه اكثر نظم الفحص والمراجعة صرامة. وفي المقابل رفعت العقوبات الاقتصادية، وعادت إيران لتصدير نفطها، واستعادت أصولها المالية المجمدة والمقدرة بمائة بليون دولار، واستأنفت تعاملها مع سوق المال العالمي.

حظيت الاتفاقية فور إعلانها بترحيب عالمي، مع اعتراض إسرائيل وبعض الدول الأخرى . وداخل الولايات المتحدة ذاتها لم يعارضها طوال رئاسة أوباما، سوى دوائر يمينية محدودة تركزت معارضتها في ثلاثة أمور. التحديد الزمني لفترة التجميد من 10 إلى 15 سنة، والشك في مدى استعداد إيران لتنفيذ تعهداتها وتعاونها مع إجراءات المراقبة، والتشكك في توفر الإرادة السياسية لإعادة فرض العقوبات حال خرق إيران لالتزاماتها. ومن الواضح ارتباط الانتقادات الأساسي بالشك والتخوف، أكثر كثيرا من ارتباطها بالتقييم الموضوعي والسياسي للاتفاقية. والشكوك عادة لا تحسمها سوى التجارب العملية، وجاءت تلك التجارب على مدى سنوات تطبيق الاتفاقية مؤكدة لقوة الالتزام الإيراني. إلا أن هذا التأكيد لم يدفع تلك المعارضة صوب التراجع والموضوعية، بل تقدمت مع رئاسة ترامب لتصبح التيار المسيطر على مؤسسة الرئاسة. ولكنها لم تصعد إلى مواقع السيطرة السياسية، ومعها ذات الرؤية السابقة بل برؤية أخرى، لا تنطلق في جوهرها من الاتفاقية بل تجعل منها ذريعتها، وسنجد أصولها الحقيقية داخل السياق العالمي للسياسة الخارجية للإدارة الجديدة من جهة، ورؤيتها الخاصة لواقع ومسارات توازنات وصراعات منطقة الشرق الأوسط من جهة أخرى.

ويقودنا ما سبق إلى جوهر النقد الموجة للانسحاب الأمريكي من الاتفاقية. سنحرص في رصدنا لعناصره، على حصر مصادره الأساسية في المادة المنشورة على مواقع مراكز الأبحاث السياسية الأمريكية الكبرى، توخيا للحياد والموضوعية. وفي هذه الحدود سنرصد اربعة مسارات متمايزة لهذا النقد.

يرفض المسار الأول الانسحاب الأمريكي لأنه يراه انسحابا من اتفاقية سعت لمعالجة مشكلة متفجرة، ونجحت باتفاق الجميع في تحقيق أهدافها. تمكنت الاتفاقية من وضع نهاية لاحتمالات امتلاك ايران لسلاح نووي، ان لم يكن للأبد فعلى الاقل لخمسة عشر عاما قادمة. والسلوك الإيراني ومنذ بدء تنفيذ الاتفاقية في يناير 2016 قدمت وكالة الطاقة الذرية عشر شهادات ميدانية تقر بالتزام إيران الكامل بتعهداتها، ونوهت أنها سمحت لها بدخول كل المواقع التي طلبت دخولها. ولم يصدر عن أي جهة دولية، أو أمريكية رسمية، ما يشكك في ذلك. وعندما أعلنت إسرائيل مؤخرا عن وصولها إلى وثائق إيرانية سرية، يصل عددها وفقا لمزاعمها إلى 55 ألف وثيقة، لم يعبر أي طرف أوروبي مشارك عن شعوره بالخديعة، وصرحوا أنها لا تكشف عن أي معلومات غير معروفة لهم قبل وخلال المفاوضات، ولا تحتوي على أي أدلة تفيد انتهاك إيران لتعهداتها بعد 2015.

وينتقل المسار الثاني إلى النتيجة المنطقية للمسار الأول، وهي أن الانسحاب حدث فعليا لأسباب لا تمت بصلة حقيقية للاتفاقية. افاض المحللون في شرح تلك الأسباب، لكننا سنجدها مجمعة في الخطاب الذي ألقاه مايك بومبيو، الذي يشكل نصا جامعا لتلك الأسباب مطروحة بوصفها شروطا مسبقه للتفاوض، وجدولا لقضايا المفاوضات يجري تقنينها عبر اتفاقية جديدة وبديلة. وفي تعليق مطول نشر على موقع مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية الأمريكي الشهير، كتب المحلل السياسي الشهير انطوني كوردسمان نقدا مفصلا للخطاب. يري كوردسمان أن الخطاب ينطوي على نوعين من المطالب. مطالب أساسية تشكل الكتلة الأهم والأكبر من المطالب، وكلها تتعلق ببعض قضايا السياسة الخارجية الإيرانية التي تعتبرها الولايات المتحدة مهددة لمصالحها، والتي لا ترتبط بأي صلة بالمسألة النووية أي قضية الاتفاقية الأساسية. ومطالب أخرى هامشية تتصل بقضية الاتفاقية الأساسية يراها كوردسمان غير موضوعية، وضمنيا لا تعبر عن إحجام إيران عن تنفيذ تعهداتها بموجب الاتفاقية، بل عن تطرف في المطالب الأمريكية. ومثال ذلك السماح بالتفتيش الدولي غير المشروط وهو ما يعني السماح بالتفتيش لكل مواقع إيران العسكرية، وهو ما لم تتطرق الاتفاقية له أصلا، ولا حتى ورد في ذهن مراقبيها ومفتشيها أن يطالبوا به تحت تأثير لحظة شك وارتياب. وإيقاف كل عمليات التخصيب، حتى تلك التي سمحت بها الاتفاقية، وهو ما يعني إهدار إيران لكل استثماراتها النووية. وكل ذلك في ظل عودة العقوبات وعدم تقديم أي مقابل لإيران. وينبثق المسار الثالث من الثاني، إذ ينطلق من التسليم بصحته محاولا رصد حظوظ نجاح القرار في تحقيق أهدافه. لدينا تحليلات كثيرة لعل أهمها تحليل جون الترمان من مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية. يتساءل الترمان: إذا كانت دوافع القرار الحقيقية حاضرة في سياسات إيرانية تراها واشنطون مهددة لمصالحها، وليس داخل الالتزام الإيراني بالاتفاقية، فكيف حسب صانع القرار الأمريكي قدرة قرار الانسحاب على تحقيق أهدافه؟ يرى الترمان أن مشكلة الاتفاقية الحقيقية كما تراها الإدارة الجديدة، أنها رفعت العقوبات الاقتصادية عن إيران وأعادت دمجها في الأسواق العالمية، ومكنتها من استعادة أرصدتها. وهكذا توفرت لها موارد مكنتها من إطلاق سياسات وأدوار خارجية إقليمية نشطة، تراها الادارة مناهضة لمصالحها. وبالتالي يصبح الحل حرمان إيران منها، عبر اعادة العقوبات ودفعها لإعادة توجيه سياساتها وأدوارها. ولكن الترمان يرى ان نمط علاقات إيران الاقتصادية والسياسية الخارجية، سيقلل كثيرا من فرص نجاح هذا السيناريو. لا تشكل تجارة الاتحاد الأوروبي مع إيران اكثر من 0.6% من صادراته الخارجية، وفي ابريل 2018 لا نجد دولة اوروبية سوى ايطاليا ضمن اكبر ستة مستوردين للنفط الايراني، وفي المرتبة الخامسة. ومن المتوقع ان تستجيب الشركات الاوروبية لقيود العقوبات الأمريكية؛ لأنها شركات كبرى ومندمجة عضويا في السوق المالي العالمي . ولكن موقف الاتحاد الأوروبي المعارض للقرار الأمريكي، سيظل قوة مناهضة للقرار وقادرة على فتح منافذ اقتصادية. أما الصين فكانت تستورد في ابريل 2018 مقدار 700000 برميل يوميا من ايران، ومن المتوقع تزايد الرقم تحت تأثير سعيها لتكثيف استيرادها من مصادر خارج التأثير الأمريكي، وموقع إيران المهم في مبادرة الحزام والطريق. علاوة على ذلك تستقبل الصين 37% من صادرات إيران غير النفطية.وينطبق هذا بدرجة اقل على الهند. تمثل الهند ثاني اكبر مستورد للنفط الايراني، ومنذ عام تتجه شركاتها لتكثيف استثماراتها البترولية في إيران خاصة في مجال التكرير، وتستقبل 14% من صادرات إيران غير النفطية، واستثمرت شركاتها بلايين الدولارات في ميناء جها باهار الايراني.

ويأتي المسار الرابع لكي يوسع من نطاق النقد، في محاولة لرصد التداعيات السلبية لقرار الانسحاب والانهيار المحتمل للاتفاقية . يتكون هذا المسار من عدة عناصر. اتخذ القرار بلا خطة بديلة سوى اعادة العقوبات، والمشكلة ان هذا يخلق وضع أزمة متصاعدة ومفتوحة، في منطقة زاخرة بالتناقضات والصراعات السياسية. ويمثل القرار نوعا من الانتقاص من النظام الدولي، فهو يشكل سابقة اذا اضفناها إلى سابقة اتفاقيتي المناخ والتجارة الدولية عبر الباسفيكي، سوف تجعل من إلزامية التعهدات والمواثيق الدولية موضعا للشك والنقض، وتهز من أسس التنظيم الدولي وعلى الأخص الأمم المتحدة التي كانت طرفا أساسيا في اتفاقيتي المناخ وإيران، وتنتقص من درجة التوافق الدولي القديم على القيادة الأمريكية للنظام الدولي، خالقه معها فراغا قياديا. و يخلق القرار صدعا خطيرا داخل التحالف الغربي بين أمريكا وأوروبا، وبالتالي يهدد وحدة الناتو في مرحلة تتصاعد فيها الصراعات مع روسيا.

لكن كيف سيكون رد الفعل الإيراني؟ أعلنت إيران تمسكها بالاتفاقية. ورغم بعض المطالبات الداخلية بالتخلي عنها، فالأرجح أن حكومتها ستصمد في موقفها. ذلك أن الفهم الاصح لتوجهات ترامب، يفيد انها تواجه معارضة ضارية داخل امريكا ذاتها، بما يجعلها مرشحة بقوة لان تصبح مجرد فترة عابرة في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية، وبالتالي تصبح استراتيجية الانتظار افضل الخيارات المتاحة. كما ان البقاء من شأنه تدعيم موقف القوى الدولية المعارضة للقرار، وبالتالي التفكيك التدريجي لتأثير العقوبات.