أفكار وآراء

روسيا... الطريق إلى استعادة القوة

01 يونيو 2018
01 يونيو 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

يبقى هذا المقال الجزء الثاني المكمل والمتمم لما سبقه من حديث عن ثنائية القوة حول العالم، سواء كانت ثنائية القطبية الدولية، أو الخيار بين ثنائية القوة الناعمة والقوة الخشنة.

هنا نتساءل إلى أي اتجاه تنحو روسيا، وهي التي باتت كالعنقاء القادمة من الرماد مرة أخرى؟ وهل هي ترجح خيار المثال الناعم الأيديولوجي أم أنها ترى القوة الخشنة هي الطريق الوحيد لاستعادة أمجادها، في ظل عالم لا يعير أي التفاتة إلا للقوة الخشنة؟

أفضل وأقرب جواب يمكننا أن نجده على علامة الاستفهام المتقدمة كائن في خطاب الأمة الذي قدمة بوتين للشعب الروسي في الأول من مارس المنصرم، فقد احتوى الخطاب الذي تم إلقاؤه على منبر الجمعية الفيدرالية الروسية على قسم خاص بالتكنولوجيات العسكرية الروسية، وشغل قسم الأمن العسكري حوالي ثلثي خطاب بوتين الذي استغرق ساعتين.

كانت التصريحات الأمنية الرئيسية لبوتين، التي تم تجاهلها في وسائل الإعلام الغربية، هي الرد الروسي على الانسحاب الأمريكي من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية لعام 1972، والنشر العملي لأنظمتها الدفاعية الصاروخية داخل وخارج أمريكا.

من منصة الخطاب كان بوتين يكشف النقاب عن مجموعة متقدمة من تقنيات روسيا العسكرية، بما في ذلك صواريخ كروز التي تعمل بالطاقة النووية والقذائف فوق الصوتية والطائرات بدون طيار.

هل الميل الروسي إلى القوة الخشنة جاء من فراغ أم أنه بمثابة الرد على الاستراتيجيات العسكرية الامريكية المختلفة الأخيرة؟

بالرجوع إلى إدارة أوباما نرى أن هناك عقيدة استخدمها الرجل في ولايته الأولى، تمثلت في هجمات الطائرات بلا طيار، واستخدام الفيروسات في الحرب السايبرية كخيار ثالث في مواجهة بعض الأعداء، وهذه الأنواع من الأسلحة الجديدة تبدو متقدمة بشكل كبير، لكن الأمر لا يمثل سوى بداية الطريق، حيث يتم الآن تطوير هذه التقنيات لإنتاج المزيد من الأسلحة التي تستخدم عدداً أقل من القوى البشرية، وتتوفر فيها القدرة على العمل في ظروف ونطاق أوسع، بحيث يمكن القول إننا ما زلنا على أعتاب عقود طويلة لثورة جديدة في عالم الحروب، يمكن مقارنتها بالقرن الماضي مع بداية صنع القنبلة الذرية، وما أعقبها من تطوير في صناعة الأسلحة النووية.

على أن إدارة الرئيس دونالد ترامب من جهتها ذهبت مذهباً دفع ولا شك الروس في طريق القوة الخشنة دفعاً لا يلين، فمنذ اليوم الأول لانتخابات الرئاسة 2016، ونحن نستمع إلى مرشح يتحدث عن تفوق أمريكا الحتمي، وكذا ضرورة العودة لتشغل أمريكا المقعد الأول حول العالم، وغالباً ما سيكون ذلك باللجوء إلى القوة الخشنة لا الناعمة، وهو ما جرت به المقادير بالفعل، فعرف الأمريكيون وسمعوا أخبار رصد عدة مليارات من الدولارات لتطوير أسلحة نووية، منها ما هو جديد لم يسمع به أحد، ومنها ما هو قديم منذ زمن الحرب الباردة ويراد تطويره، عطفاً على بناء سفن وقطع بحرية وحاملات طائرات جديدة، والأخبار العسكرية الأمريكية الأحدث تتصل بإعادة إحياء الأسطول الثاني الأمريكي الذي كان قد أحيل إلى التقاعد عام 2011، وها هو يعود من جديد الى مياه المحيط الهادئ، ليواجه التهديدات الروسية والصينية معاً. كشف بوتين النقاب عن حجم البحث والتطوير العسكري لأول مرة منذ عام 2002، لمواجهة أجندة التسلح النووي الأمريكية، وقد أشار إلى أن روسيا قد تطورت وتعمل بشكل متواصل على تحسين أنظمة فعالة للغاية، ولكنها ذات أسعار متواضعة للتغلب على الدفاع الصاروخي، وكشف بوتين أيضا عن قائمة مذهلة من صواريخ الجيل الجديد المتطورة القادرة على تخطي دفاعات الولايات المتحدة أو الناتو المضادة للصواريخ. هل من فكرة ولو مبسطة عن أدوات القوة الخشنة التي يعمد إليها بوتين لإعادة أمجاد روسيا القيصرية؟

بدون تطويل ممل ها هي بعض منها وفي المقدمة فيها الصاروخ الجديد «سارمات» الذي يزن أكثر من 200 طن، ومن الصعب جداً على أنظمة الدفاع الصاروخية الامريكية أن تعترضه ويمكن أن تكون هذه الصواريخ مجهزة برؤوس نووية، وسرعتها تفوق سرعة الصوت، وتملك أحدث وسائل تجاوز الدفاعات الصاروخية، وبذلك يمكننا القول أن صاروخ «سارمات» هو أول رد روسي على التهديد المتنامي للناتو.

أدركت روسيا مؤخراً أن الصراع القطبي الجديد قد عاد مرة أخرى إلى البحار والمحيطات، وهي التي تراهن بدرجة كبيرة على استغلال الكنوز الموجودة في اسفل القطب الشمالي، من نفط وغاز ومعادن ثمينة، وجميعها تزخم مسيرة روسيا الاقتصادية، وعليه فقد ذهبت روسيا إلى تطوير غواصات غير مأهولة بالبشر، ويمكنها أن تتحرك في أعماق البحار بين القارات بسرعة أكبر بعدة مرات من سرعة الغواصات الأخري.

ولأن الردع هو أفضل وسيلة للدفاع، فقط طور الروس نظامين صاروخيين جديدين هما «الخنجر» و«أفانجارد»، وسرعتهما تفوق سرعة الصوت، وهما النظامان الوحيدان من نوعهما في العالم، وقد اكتملت اختباراتهما بنجاح، وعلاوة على ذلك فقد بدأت هذه الأنظمة في الأول من ديسمبر الماضي خدمتها التجريبية في المطارات، في المنطقة العسكرية الجنوبية، ويمكن للصاروخ الذي يتحرك بسرعة أكبر من سرعة الصوت أن يناور في جميع مراحل مساره مما يسمح له بالتغلب على جميع الصواريخ الموجودة.

السؤال الجوهري في هذا السياق هل الغرب الأوربي عامة والأمريكي خاصة هو ما دفع روسيا في هذا التوجه أي الميل نحو القوة الخشنة؟

بحسب أندري جراتشيف المؤرخ واختصاصي العلوم السياسية، المستشار السابق للرئيس السوفييتي الأخير ميخائيل جور باتشوف، فإن روسيا لم تكن تريد مطلقاً أن تشن حرباً على الغرب، فلا هي كانت تريد قطع علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوربي، ولا أن ترفض اقتراحاً توفيقياً تصالحيا من الرئيس الأمريكي الجديد «وقتها» باراك أوباما، يهدف إلى «جبر الكسر» في العلاقات الأمريكية الروسية.

وحتى الحدث العابر الذي تعرضت له هذه العلاقات والمتمثل في اندلاع الحرب الروسية الجورجية عام 2008، ما كان لها أن تحدث اضطراباً جديا في العلاقات بين الروس والغرب، الواعي للعصبية الروسية إزاء إعلان الرئيس الجورجي ساكشفيلي عن رغبته في الالتحاق بحلف شمال الأطلسي.

غير أن أحداً لم يفعل شيئاً في هذه الحقبة للحيلولة دون الانزلاق نحو القطيعة، وقد جاء نشر الجانب الأمريكي لعناصر من النظام المضاد للقذائف الصاروخية الباليستية (ABM) العتيد، الذي لطالما كان بالنسبة إلى الروس بمنزلة التلويح بشارة خطرة والمبادرة ببادرة استفزاز – ومواصلة الأمريكيين نصبه والاقتراب به من الحدود الروسية في أوربا الشرقية، ليفاقم الأمور. وأما الاتحاد الأوربي، فإنه لم يعر أي انتباه لمبادرة «هلسنكي»، ولا لاستخلاص منظومة إجمالية للأمن الجماعي الأورو – أطلسي التي عرضها ميد فيديف إثر النزاع الروسي – الجيورجي وصياغتها، كما أن لجنة بروكسل لم تستطع أن تعرض على روسيا الشراكة الاقتصادية التي كانت ترغب بها، والتي كانت تحتاج إليها حاجة حيوية لتأمين تحديث روسيا، فكان يكفي في هذا السياق أن تنشب أزمة جديدة، حتي ولو كانت أطرافية لتحطم نهائياً ما كان قد تبقى من ثقة بين روسيا ونظرائها، وهذا ما عناه التدخل في ليبيا عام 2011. هل يعتبر بوتين نفسه في حالة حرب مع الغرب وعليه فقد اختار الأدوات والآليات التي تتلاءم وتلك النوعية من الحروب؟

في أواخر شهر مارس الماضي تحدث وزير الدفاع الدنماركي «كلاوس هيورت فريدرريكن» بالقول إن المشهد بين الروس والغرب هو «أخطر بكثير مما كان عليه في عام 1989، لجهة مصادر ووسائل الخطر وغياب توقع الخطوات الروسية».

هنا أيضاً لم تكن مصادفة أن يتزامن نشر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «ينس ستولتنبرج» تقرير حلف شمال الأطلسي السنوي في15 مارس المنصرم، وتوسع التقرير ليغطي الفترة الممتدة منذ 2014، أي منذ توتر العلاقة مع موسكو، بعد تبعات التدخل الروسي في أوكرانيا، مع تصاعد نبرة الخطاب الغربي تجاه موسكو، سيما بعد محاولة اغتيال «سكريبال»، ففي سلم أولويات حلف الأطلسي في علاقته مع روسيا، تأتي أيضاً الحرب السيبرانية وفقدان السيطرة على السلاح وسباق التسلح. ماذا عن عقيدة الأمن السيبراني الروسية التي أرسى دعائمها فلاديمير بوتين؟

وفقاً لتلك العقيدة الجديدة، والتي وقعها بوتين في 6 ديسمبر عام 2016، فإن إحدى التهديدات الرئيسية لروسيا تتمثل «بزيادة عدد الدول الأجنبية التي لديها تأثير على البنية التحتية لمعلومات الأغراض العسكرية في روسيا».

ويقول «اوليج ديميدوف» وهو خبير في الأمن السيبراني، من مؤسسة بحثية مستقلة مقرها موسكو: «العقيدة في شكلها الحالي هي العقيدة الأفضل بما يخص التهديدات الموجهة للأمن العسكري والتكنولوجي في روسيا، على سبيل المثال، هي تعمل بشكل مؤكد على الحماية من العمليات السيبرانية من قبل الأجهزة الخاصة الأجنبية، فضلاً عن مكافحة النشاط الاستطلاعي الأجنبي في روسيا، ويشير الخبير إلى ان الحكومة الروسية أولت اهتماماً خاصاً لمواجهة «ثورات التويتر» الجديدة كتلك التي حدثت في الشرق الأوسط، في بداية العقد الحالي.

هل هناك قصص أخرى في طريق روسيا للقوة الخشنة؟

في أوائل ثمانيات القرن العشرين، أقنع عدد من غلاة اليمين الأمريكي الديني الرئيس الأمريكي وقتها «رونالد ريجان»، بضرورة إنشاء برنامج حرب الكواكب أو النجوم، ذاك الذي كان من المفترض فيه أن ينشئ شبكة صاروخية فوق الولايات المتحدة الأمريكية، تمنع وجود أو دخول صواريخ معادية من موسكو إلى الأراضي الأمريكية، ما يعني ضمان الهيمنة الأمريكية على العالم. غير أن هذا البرنامج والذي يقوم على أسس ثابتة من الاعتماد على الأقمار الاصطناعية، لم يقدر له أن يكتمل ولا أن يمضى قدماً، سيما بعد ان سقط الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينات وأوائل التسعينات. غير انه ومع وصول دونالد ترامب إلى سدة السلطة بدا وكأن البرنامج الصاروخي الفضائي الأمريكي، وغيره من برامج عسكرية أمريكية أخري تعود للهيمنة في سماوات الكرة الأرضية، ولهذا عمد الروس أيضاً إلى تدبير أسلحة مضادة للأقمار الاصطناعية، ففي 16 ديسمبر من عام 2016 قام الجيش الروسي بتجربة ما يبدو انه سلاح مضاد للأقمار الصناعية، صاروخ ينطلق على مدار منخفض ليحطم سفينة عدو فضائية. الخبر المشار إليه أوردته نشرة موقع «ذا دايلي بيست» الأمريكي الذي قال إن الاختبار قد يكون أحدث إشارة تكشف نوايا روسيا ومدى تطور قدراتها كي تهدد الولايات المتحدة بكل سفنها الفضائية الخاصة منها والحكومية، التي يبلغ تعدادها بالمئات، وبذلك ستضعف من قوة الولايات المتحدة وأفضليتها العسكرية التجارية في الفضاء.

للغرب المصلحة كل المصلحة في أن يأخذ روسيا إلى جانبه في هذا المسار، ذلك إنه إذا ما انقطعت علاقاته بروسيا، تجنبا لمخاطر عديدة. وذلك هو الدرس الذي استخلصه جون كنيدى من النهاية السعيدة التي انتهت إليها أزمنة كويا عام 1962... فهل آفة الغرب هي النسيان؟