روضة الصائم

الكلام على عدم سماع الدعوى والفرق بينها وسقوط الحق «1»

31 مايو 2018
31 مايو 2018

زهران بن ناصر البراشدي -

قاض بالمحكمة العليا بمسقط -

الأصل في حقوق الآدميين أنها لا تسقط إلا بالوفاء أو البرآن ممن يملك البرآن من ملاكها، وهذا هو مذهب جمهور الأمة على اختلاف درجاتها وأفهامها، ولم يخالف فيه أحد سواءً من جهة الشرع أو القانون، مستدلين بما يروي «لا ثواء على مال امرئ مسلم.» أي لا هلاك عليه ولا فوات. وفي رواية «لا ثواء..»

والثواء بالثاء المثلثة والمد الإقامة، أي لا إقامة لأحد على مال مسلم، بل يلزمه رده والتخلص منه، أو بالتاء المثناة من فوق والقصر بمعنى الهلاك، ومعنى الحديث إذاً لا يهلك مال المسلم خروجه من يده، بل يبقى له متى أمكنه استرداده استرده بأي وجه أمكنه، ويحكم له برده بعينه إن كان موجوداً بعينه، وبمثله إن فقدت عينه، وبقيمته إن عدم المثل.

قلت: وهذه الرواية لم تثبت عن صاحب الرسالة المعصوم عليه الصلاة والسلام بل هي رواية موقوفة على أمير المؤمنين عثمان.

وهي بتمامها عند البيهقي «أخبرنا أبو نصر بن قتادة أنبأ أبو الحسين محمد بن عبد الله بن محمد القهستاني ثنا محمد بن أيوب أخبرني أبو الوليد ثنا شعبة أخبرني خليد بن جعفر قال سمعت أبا إياس عن عثمان بن عفان قال: ليس على مال امرئ مسلم توى يعني حوالة.»

ورواه غيره عن شعبة مطلقا ليس فيه يعني حوالة قال الشافعي في رواية المزني في الجامع الكبير احتج محمد بن الحسن بأن عثمان بن عفان قال في الحوالة أو الكفالة: يرجع صاحبها، لا توى على مال مسلم.

فسألته عن هذا الحديث فزعم أنه عن رجل مجهول وعن رجل معروف منقطع عن عثمان، فهو في أصل قوله يبطل من وجهين ولو كان ثابتا عن عثمان لم يكن فيه حجة لأنه لا يدري أقال ذلك في الحوالة أو في الكفالة.

قال الشيخ الرجل المجهول في هذه الحكاية خليد بن جعفر وخليد بصري لم يحتج به محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب الصحيح وأخرج مسلم بن الحجاج حديثه الذي يرويه مع المستمر بن الريان عن أبي نضرة عن أبي سعيد في المسك وغيره وكان شعبة بن الحجاج إذا روى عنه أثنى عليه والله أعلم.

والمراد بالرجل المعروف أبو إياس معاوية بن قرة المزني وهو منقطع كما قال، فأبو إياس من الطبقة الثالثة من تابعي أهل البصرة فهو لم يدرك عثمان بن عفان ولا كان في زمانه.

قال الترمذي: وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: إِذَا تَوِيَ مَالُ هَذَا بِإِفْلاَسِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الأَوَّلِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ عُثْمَانَ، وَغَيْرِهِ، حِينَ قَالُوا: لَيْسَ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ تَوًى. قال إسحاق معنى هذا الحديث: ليس على مال مسلم توى. هذا إذا أحيل الرجل على آخر وهو يرى أنه ملي فإذا هو معدم فليس على مال مسلم توى. ورد هذا الاعتراض أولا: بما قدمت لك من عدم صحة رفع الحديث إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام وإنما هو أثر عن الخليفة عثمان في قضية عرضت عليه في الحوالة وهي خارجة عن محل النزاع فلا دليل فيها على المنع.

ثانيا: إننا لم نقل بسقوط الحق إن كان ثمة حق على المدعى عليه في عالم الغيب، بل مرده إلى من يعلم الغيب وأخفى وهو آثم بعدم أدائه لمستحقه وإنما نقول بعدم اشتغال القضاء بدعوى أكَلَ الدهر عليها وشرب ومضت عليها السنون والأعوام وأهملها ربها من غير مانع يمنعه ولا مكره يكرهه، وبين المسألتين فرق عظيم ولولي الأمر أن يحدد لقضاته والقضاء بمعنى عام ما يحكمون فيه وما لا يحكمون فيه وما يأتون وما يذرون بل يجب عليه ذلك، وقد كانت الأئمة لا تجعل قاضيا ولا واليا إلا وكتبت له عهدا بذلك ولنا فيهم أسوة.

وله نظر المصالح العامة للأمة بما لا يخالف الكتاب والسنة والإجماع وقد مضى على ذلك سلف الأمة منذ الخلافة الراشدة وإلى وقتنا هذا بل وإلى ما شاء الله من الزمان. وفي رواية «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» ورد بما تقدم في الذي قبله من جهة، ومن جهة ثانية بعدم ثبوت هذه الرواية أيضا إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام كما سيأتي إيضاحه في محله إن شاء الله عز وجل. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «القليل من أموال الناس يورث النار» وقوله: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» وقوله: « لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه « وقوله: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» وقوله: «من اقتطع حقَّ مسلم بيمينه حرَّم الله عليه الجنَّة وأوجب له النار»، قيل: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن كان قضيبا من أراك».

والمدعي قد يكون صاحب حق في الواقع فإذا لم تسمع دعواه، ولو طال الزمان، لكان المدعى عليه آكلا لمال امرئ مسلم بغير طيب من نفسه مرتكبا للحرام.

ورد بأنه لا دليل في هذه الروايات على المنع من عدم سماع الدعوى وتحديد مدة لسماعها، بل غاية ما فيها التشديد في أكل مال الغير بغير حق وأن من أكل مالا حراما فهو آثم ظالم محاسب عند الله وعند الخلق وهذا ما لا يختلف فيه اثنان، فأين الدليل على وجوب الدعوى على بريء في ظاهر الأمر بموجب الأصل الظاهر وهو البراءة الأصلية والسلامة من الظلم.؟ في دعوى مضى على موضوعها الدهر فأكل عليها وشرب وذهبت السنون والأعوام وأهملها صاحبها من غير مانع يمنعه ولا رادع يردعه، لا دليل فيه لا من قريب ولا من بعيد.

وقالوا: وأنه من الضعف أن نأخذ بقرينة ترجح جانب المدعى عليه ونترك الأخذ بالبينة.

وأجيب بأن عدم سماع الدعوى هنا تبعا للبراءة الأصلية وترجح جانب المدعى عليه بذلك وهو الأصل فلو رجحنا جانب المدعي فقد أخذنا البريء بالظن مع قدم الزمان.

وزاد ترجيحنا قوة في جانب المدعى عليه وضعفا في جانب المدعي مضي المدة الطويلة دون سبب شرعي يمنع من إقامة الدعوى، أمَّا مع تحقق السبب المانع من رفع الدعوى فالدعوى مسموعة إن تحقق ذلك.