أفكار وآراء

إيـطالـيـا أمـام خيـارات صــعبة

30 مايو 2018
30 مايو 2018

عبد العزيز محمود -

ثمة ما يؤكد أن إيطاليا على أعتاب أزمة سياسية جديدة، بعد أن كلف الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا الاقتصادي كارلو كوتاريلي بتشكيل حكومة تكنوقراط، قد لا تنجح في الحصول على ثقة البرلمان، في ظل الصراع الدائر بين القوي المناهضة والمؤيدة لأوروبا الموحدة، مما يرجح العودة مجددا إلى صناديق الاقتراع خلال أشهر.

تكليف كوتاريلي المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠١٣ بتشكيل الحكومة الجديدة اعتبره الشعبويون المناهضون للهجرة ومنطقة اليورو بمثابة مناورة من جانب الرئيس لعرقلة وصولهم إلى السلطة. وهو ما قد يبدو صحيحا إلى حد ما، فالشعبويون كانوا بصدد تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة المحامي جوزيبي كونتي تضم حركة الخمس نجوم وحزب الرابطة، لكن اعتراض الرئيس ماتاريلا على تعيين الاقتصادي باولو سافونا لمنصب وزير المالية، تسبب في انهيار الائتلاف واعتذار كونتي عن مهمة تشكيل الحكومة.

الشعبويون اتهموا الرئيس بإفشال جهودهم الرامية لتشكيل حكومة، استجابة لتدخل من ألمانيا والاتحاد الأوروبي وجماعات الضغط المالي ووكالات التصنيف الائتماني، والذين شعروا جميعا بالقلق من تشكيل حكومة شعبوية في إيطاليا، وهكذا اتهم الشعبويون ماتاريلا بالانحياز إلى الاتحاد الأوروبي على حساب أصوات الناخبين الايطاليين، وهددوا بعزله استنادا الى فقرة في الدستور تنص على أن رئيس الدولة ليس له أن يتدخل في أعمال لا علاقة لها بمنصبه، كما دعوا لمسيرات احتجاج في روما وكل أنحاء إيطاليا يوم ٢ يونيو المقبل للمطالبة بانتخابات مبكرة.

ومن جانبه أكد الرئيس الإيطالي قيامه بكل ما يمكن للمساعدة على تشكيل حكومة كونتي، بالموافقة على كل الوزراء الذين اقترحتهم حركة الخمس نجوم وحزب الرابطة، باستثناء وزير المالية سافونا، الذي طالب باختيار بديل له، بسبب تشكيكه علنا في الاتحاد الأوروبي، وتهديده بخروج إيطاليا من منطقة اليورو.

ومع تراجع الشعبويين كلف الرئيس ماتاريلا الاقتصادي كوتاريلي بتشكيل الحكومة التي تأتي بعد انتخابات عامة أجريت في مارس الماضي، وسط ترحيب من الاتحاد الأوروبي، الذي كان يشعر بالقلق من احتمال تشكيل حكومة شعبوية في إيطاليا، يمكن أن تهدد تماسكه، في وقت يحاول فيه ترويض تمرد المجر وبولندا ضده في شرق أوروبا.

لكن اختيار كوتاريلي الذي قد يشغل منصب وزير المالية بجانب رئاسته للحكومة الجديدة أثار غضب الشعبويين، بسبب مواقفه الداعمة لبقاء إيطاليا ضمن منطقة اليورو وتعهده بإجراء حوار مع الاتحاد الأوروبي، وهذا ما دفعهم للتأكيد على أنهم لن يمنحوه الثقة في البرلمان، مفضلين التوجه إلى انتخابات مبكرة، دفاعا عما وصفوه بإرادة الشعب في مواجهة إرادة النخبة.

الرئيس ماتاريلا لم يكترث بتلك التهديدات معتبرا كوتاريلي هو الاختيار الأنسب، فالاقتصاد الإيطالي بحاجة إلى سياسات تقشفية عاجلة لإنقاذه من الركود وضعف النمو وعجز الموازنة وزيادة حجم الدين العام الذي تجاوز ١٣٣٪ من الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن محاولة ردم الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير.

ولم يكن هناك أفضل من كوتاريلي للقيام بتلك المهمة، فهو يتمتع بمنهجية صارمة في إدارة الشؤون المالية، ظهرت بوضوح خلال عمله مفوضا لمراجعة وخفض الإنفاق العام، إبان حكومة إنريكو ليتا عام ٢٠١٣، فضلا عن الخبرات التي اكتسبها خلال عمله في صندوق النقد الدولي طوال ٢٥ عاما.

كما أن هذه المهمة لم يكن بوسع حكومة شعبوية أن تنفذها، فحركة الخمس نجوم وحزب الرابطة كانا قد تعهدا بزيادة الإنفاق العام وخفض الضرائب، وهو ما كان سيشكل تهديدا للاقتصاد الإيطالي المثقل بالديون، وانتهاكا للقواعد المالية التي حددها الاتحاد الأوروبي لدول منطقة اليورو.

ولم يكن أمام إيطاليا في هذه الحالة إلا أن تتجه لمزيد من الديون، لتدبير التمويل اللازم وسد عجز الموازنة، مما يهدد بتعرضها لأزمة مالية شبيهة بالأزمة التي تعيشها اليونان منذ ثماني سنوات ولم تتمكن من حلها، رغم كل برامج الإنقاذ التي اقترحها الاتحاد الأوروبي.

القضية الأخطر أن الشعبويين تعهدوا في حال تشكيلهم للحكومة، بمراجعة كافة معاهدات الاتحاد الأوروبي، خاصة تلك المتعلقة بالهجرة والاتحاد النقدي، وهو ما كان سيؤدي إلى صدام حتمي بين روما وبروكسل، فضلا عن تعطيل إقرار الموازنة المالية الجديدة لعام ٢٠١٩.

وهو سيناريو كان من الصعب قبوله من جانب أطراف إيطالية عديدة فضلا عن الاتحاد الأوروبي.

ولعل هذا ما دفع الرئيس الإيطالي لتكليف كوتاريلي بتشكيل الحكومة الجديدة، للتأكيد على أن مستقبل إيطاليا داخل أوروبا، وليس خارجها، وحتى تتمكن إيطاليا التي تمثل ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو من الوفاء بالتزاماتها تجاه الديون والعجز المالي، دون أن تهدد الاستقرار المالي لبلدان منطقة اليورو.

لكن هذا الاختيار لم يكن إلا تأجيلا للأزمة، وليس محاولة لحلها، فالشعبويون الذين يملكون الأغلبية داخل البرلمان الإيطالي بمجلسيه النواب والشيوخ، قرروا حجب ثقتهم عن حكومة كوتاريلي، مما يعني حل البرلمان، والتوجه إلى انتخابات جديدة، يعلمون جيدا أنها سوف تزيد من مكاسبهم.

وهم يدركون أيضا أن تحقيق هذا الهدف قد يتطلب إزاحة الرئيس ماتاريلا عن منصبه، ولعل هذا ما دفعهم للدعوة إلى مسيرات احتجاجية في روما وكل ساحات البلاد يوم ٢ يونيو المقبل، وهو يوم عطلة بمناسبة ولادة الجمهورية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية، فيما يشبه المظاهرات التي نظمها موسوليني في روما عام ١٩٢٢، وأدت إلى وصوله للسلطة.

كل المعطيات تقول إن إيطاليا الآن أمام خيارات صعبة، فالأزمة السياسية تتعمق، والانقسامات تتفاقم بين القوى المناهضة لأوروبا الموحدة وتلك المؤيدة لها، وحالة عدم الاستقرار السياسي التي تعيشها البلاد منذ عقود تتزايد، مما يعني أن العودة مجددا إلى صناديق الاقتراع قد تصبح أمرا حتميا.