أفكار وآراء

منظومة للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط !

26 مايو 2018
26 مايو 2018

د. عبدالعاطى محمد -

وسط الجدل الصاخب حول مصير القضايا الساخنة في الأجندة السياسية المهيمنة على اهتمام الجميع في الشرق الأوسط، لم يحظ الأمن الإقليمي بالقدر المطلوب من النقاش والعمل على صياغة منظومة متكاملة ومقبولة من كافة الأطراف الدولية والإقليمية الأساسية في المنطقة. وبما أنه المسألة الحاكمة في حسم ما تكتظ به الأجندة السياسية، وحيث إنه لا يزال غائبا، يصبح من الصعب التكهن بمستقبل الاستقرار في هذه المنطقة الساخنة من العالم.

يستطيع الرأي العام العربي أن يرصد الاهتمام الشديد صباح مساء كل يوم بتفاصيل وتطورات ما تتضمنه الأجندة السياسية من قضايا بدءا من القضية الفلسطينية إلى الأوضاع المتأزمة في سوريا واليمن وليبيا، مرورا بالمواقف والرؤى الأمريكية والإسرائيلية فيما يتعلق بهذه القضية وتلك الأوضاع، وصولا إلى تداعيات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق الإيراني. كل ذلك موضع اهتمام يصل إلى حد الهم اليومي للمواطن العربي من المحيط إلى الخليج، وهو اهتمام له مبرراته بكل تأكيد، ولكن المسكوت عنه هو قضية الأمن القومي لكل طرف ومن ثم الأمن الإقليمي ككل مع أنه مصدر الداء في كل ما هو قائم من أزمات.

ومن الصحيح أن الحديث عن الأمن القومي وذلك الجماعي أو الإقليمي لا يتوقف من جانب الجميع، لأسباب بسيطة ومفهومة جيدا تنحصر في أن كل طرف يلمس تعرضه للتهديد باستخدام القوة وحتى بدون استخدامها بما يجعله معنيا بدرجة كبيرة للغاية بأمنه القومي، كما لا يتوقف الكلام عن أهمية التعاون لتحقيق الأمن الإقليمي للجميع على أساس أن ذلك هو الذي يضمن الاستقرار والسلام الداخلي ومن ثم ضمان نجاح خطط النمو والتقدم للشعوب. إلا أن أحدا لا يتطرق إلى أن الأمن الإقليمي أضحى قضية قائمة بذاتها بغض النظر عن أنها نتجت بشكل خاص بسبب وجود الأزمات السياسية القائمة. فحتى سنوات قليلة مضت كانت أقرب إلى البحث النظري أو التحوط السياسي من تهديدات مفترضة، ولكن اليوم لم تعد كذلك مطلقا استنادا إلى سباق التسلح الرهيب الذي فاق التصور أو الوضع الطبيعي، وإلى إقحام الحلول العسكرية في معظم الحوارات والتحركات تجاه الأزمات القائمة، وإلى النظر للأمن باعتباره الأولوية القصوى لكل طرف، ومع ذلك لا يجد الحوار حول العمل على صياغة منظومة متكاملة للأمن الإقليمي طريقا، بل الواضح أنه مسألة حساسة للغاية لدرجة الحرص على تجنب الكلام فيها.

هناك أول المحظورات التي تقف في طريق حوار من هذا النوع، هو أنه قد يعني صراحة بحث علاقة إسرائيل بهذه المنظومة، فليس من المقبول أن يتحول الفكر القومي العربي من موضع النظر لإسرائيل على إنها «العدو» وأن مواجهتها هي العقيدة التي يجب أن تسيطر على توجهات الدول العربية، إلى موضع القبول بعلاقتها في مسألة بالغة الحيوية مثل الأمن. ولكن هذا المحظور مردود عليه بعدة حجج واقعية، ليس فقط لأن الدول العربية قبلت بإسرائيل في المنطقة ووافقت على السلام معها ، إذا ما قبلت هي حل عادل للقضية الفلسطينية، وإنما لأن الحديث عن الأمن الإقليمي أصبح يتضمن أطرافا أخرى غير عربية ، ودورها مؤثر حقا مثل إيران وتركيا. هنا الأمر يصبح مختلفا عما ألفه الفكر القومي العربي، حيث تتباين الرؤى ولكن يحكمها اعتبار رئيسي هو منع التهديد باستخدام القوة وسباق التسلح ، وصولا إلى العمل على امتلاك السلاح النووي بهدف تحقيق التوازن الاستراتيجي، فلا وجه للحساسية من الكلام في القضية ـ حسبما يقول الكاتب - طالما الوضع القائم في المنطقة يبتعد عن الاعتبارات القومية العربية المعروفة. ومن جهة أخرى فإن إسرائيل ذاتها لن تشعر بالاطمئنان للدعوة حتى لو بدا في الظاهر أنها ترحب بها، لسبب بسيط هو أنها لن توافق على إخضاع برامجها العسكرية لشروط الأطراف الأخرى، ولو وافقت فستعمل على أن تهيمن على هذه المنظومة لا أن تكون مجرد جزء فيها يسري عليها ما يسري على الآخرين. والمعنى هنا أن الدعوة إلى إيجاد منظومة للأمن الإقليمي ليست في صالح إسرائيل، بل هي وسيلة لضبط جماحها الأمني في المنطقة، ولا ننسى أنها دولة نووية وترفض نزع السلاح النووي من الشرق الأوسط. الدعوة لمنظومة كهذه لا علاقة لها بالتطبيع من قريب أو بعيد لأن هناك أطرافا غير عربية فيها وتركيا ذاتها لها علاقات طبيعية مع إسرائيل منذ زمن. فقط تبقى مشكلة موافقة إيران وتركيا، ولكن احتمال الموافقة قائم بدرجة أكبر من الموافقة العربية!، لأن كل منهما يتصرف وفق المصالح السياسية لا وفق المعتقدات الفكرية. المبرر الأهم لدعوة كهذه هو أن أوروبا استطاعت أن تصوغ لنفسها منظومة للأمن الإقليمي منذ زمن ووفقت أوضاعها الأمنية مع الولايات المتحدة، ومن خلال هذه المنظومة الأمنية استطاعت أن تقيم سلاما دائما بين أطراف الاتحاد الأوروبي، فلماذا لا تتكرر الفكرة فيما يتعلق بالشرق الأوسط. العرقلة ستأتي من إسرائيل والولايات المتحدة لأن كليهما متفقان على أن تبقى المنطقة تحت سيطرتهما الأمنية والسياسية بالطبع. في حالة الموافقة الصريحة الرسمية من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، فإن دعوة كهذه ستكون فرصة لحل الأزمات السياسية القائمة بما فيها القضية الفلسطينية نفسها، حيث المساومة السياسية تصبح قائمة بين ما سيتوفر من مزايا لكل منهما مقابل المزايا التي يمكن أن تتحقق للجانب العربي وأيضا بالنسبة لإيران وتركيا. في هذه الحالة فإن منظومة الأمن الإقليمي ستعني الاتفاق بين الجميع على حفظ مصالح كل طرف والتعاون على تحقيق هذا الهدف لا الصراع كما هو قائم الآن. المحظور الثاني هو أن الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين لن تسمح بقيام مثل هذه المنظومة لأن الخلافات السياسية فيما بينها جميعا بالنسبة لقيادة النظام العالمي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة ليست بأقل من الخلافات القائمة بين الدول الإقليمية الرئيسية في المنطقة. وبالنسبة للشرق الأوسط فالحقيقة أن أيا من هذه الدول لا يقدم لنا سياسة واضحة تعبر عن دور محدد له في تطورات الأوضاع. ومن جهة أخرى فإن هذه الدول هي مصدر التسلح لدول المنطقة ولا ترغب في أن تتوقف مصالحها من هذا الباب إذا ما تشكلت منظومة للأمن الإقليمي. ولكن تحفظ أو اعتراض الدول الكبرى يمكن التغلب عليه بأمرين: أولهما هو أن تجتمع كل الأطراف الإقليمية وجها لوجه وتصوغ خصائص هذه المنظومة الأمنية وتتفق على متطلباتها وتتعهد بالتنفيذ، وثانيهما هو أن تتوجه هذه الدول الإقليمية إلى مجلس الأمن لتصوغ قرارا دوليا بهذا الشأن. قد تبدو هذه الرؤية للبعض مثالية إلى حد الخيال، ولكن عند التحدث بلغة السياسة الواقعية والمجدية لابد من الأخذ في الاعتبار ما إذا كان الوضع الراهن للتعامل مع المشكلة الأمنية بالمعنى الاستراتيجي للكلمة ناجحا أم لا ومدى تكلفته، وما هو حجم الفرص التي يتيحها التصور البديل. وبنظرة سريعة فإن التصور للوضع القائم يشير إلى أنه برغم كثرة الحديث عن أهمية الأمن الإقليمي للجميع، وتكرار المواقف والتصريحات بالتعاون الجماعي للوصول إلى هذا الهدف، إلا أن واقع الفعل يشير إلى التصرف الفردي أو الثنائي في التعامل مع هذه القضية، وليس التصرف الجماعي، كما أن حجم التحديات الأمنية التي تواجه كل طرف يتزايد بشكل مخيف، بما يعني أن المحصلة النهائية هي الفشل في التعامل مع التحديات الأمنية، هذا فضلا عن التكلفة الباهظة للتعامل مع المشكلة بهذا النحو، وهو ما يتضح من سباق التسلح الكبير بين الجميع بكل ما يمثله من إنفاق باهظ على التسلح بينما هناك مجالات أخرى شديدة الحاجة للموارد كلها تتعلق بالتنمية الشاملة. ويتوازى مع ذلك اتساع فجوة الخلافات في علاقات الأمن والسلام والاستقرار بين كل الأطراف. الإصرار على الوضع الراهن يعني المزيد من إهدار الموارد والمزيد من الوهن للأطراف العربية على وجه الخصوص، بينما البديل يستحق الاهتمام ولو بالمناقشة واستكشاف الطريق. وليس ذلك لونا من التطبيع مع إسرائيل كما سبق التوضيح لأن المنظومة تشمل كلا من إيران وتركيا وتستند إلى تجارب الآخرين كما هو قائم في منظمة التعاون الأوروبي أو صيغ التفاهم القائمة بين كثير من دول شرق آسيا، وإلى قواعد القانون الدولي وتحت نظر وشرعية المجتمع الدولي ممثلا في مجلس الأمن.