أفكار وآراء

العالم بين قوتين .. إلى أين المصير ؟

26 مايو 2018
26 مايو 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

السؤال محور هذا الطرح هو عن أي قوتين نتحدث في هذه السطور؟ هل عن ثنائية الأقطاب الدولية أم عن تعددية أوجه القوة التي تمضي بين القوة الناعمة والقوة الخشنة؟

يحتمل الجواب في كل الأحوال التوجهين، غير أن ما يهمنا في هذا المقام هو الحديث عن الصراع الماضي حول العالم لجهة فكر القوة الخشنة وهل يمكن من خلالها السيطرة على العالم أم أن هذا الطرح قد تجاوزته طبائع العالم المعولم والذي لا يمكن فيه بحال من الأحوال لقوة بعينها أن تتسيد المشهد الدولي وبانفراد مطلق.

تبقى القوة الخشنة في كل الأحوال مستندة إلى قوة النيران والتسليح والجهوزية العسكرية للدخول في مواجهات حول العالم ، تبدأ من عند البارودة التاريخية والأسلحة التقليدية باختلاف أصنافها وألوانها، وصولا إلى الأسلحة النووية التي عاد العالم ومن جديد للاهتمام بها وبتعظيم ترسانته الحربية من رؤوسها، وهي الكفيلة بإبادة البشرية عدة مرات بحسب آخر القراءات .

أما القوة الناعمة فهي المشار إليها بقوة المثل والأخلاقيات ونجاعة النموذج الإنساني، فعلى سبيل المثال كانت الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في هذا المجال عندما اعلن رئيسها «ودرو ويلسون» أوائل القرن العشرين، المبادئ الأربعة عشرة المختصة باستقلال الدول وسيادتها وحقها في تقرير مصيرها .

الأمر نفسه عرفه الاتحاد السوفييتي السابق في فترة المد الشيوعي حينما حاول تقديم نموذج العدل والكفاية للعالم اجمع لا سيما الدول الفقيرة والمطحونة في العالم النامي، وفي محاولة للتغلب على الطروحات الرأسمالية الأحادية التوجه .

ولعل السؤال الآني هل عادت القوة الخشنة لتلاشي القوة الناعمة من حول الأرض ؟

ما دفعنا في طريق طرح علامة الاستفهام المتقدمة هذا الصراع الذي نشأ من جديد بين موسكو وواشنطن ومستقبل صراع القوة من جديد بينهما والذي لم يتوقف عند الأسلحة التقليدية والاعتيادية بل تجاوزها إلى أسلحة جديدة لم تعرفها البشرية من قبل، من قبيل الأسلحة التي يطلق عليها فرط صوتية، عطفا على إعادة إحياء برامج حرب الفضاء، وفيها فان من يقدر له السيطرة على الغلاف الخارجي للكرة الأرضية، فانه بلاشك سوف يفرض إرادته على بقية دول العالم، إذ يمكنه أن يهاجم من يشاء ساعة ما يشاء، وبدون خوف من مقدرة على الانتقام أو الردع .

يستدعي المشهد الدولي وقبل البدء في تحليل اتجاهات القوة حول العالم الإشارة إلى أن هناك آراء معتبرة تقول إن فكرة الثنائية القطبية قد ولت مرة والى الأبد، وفي مقدمة أصحاب هذا الرأي يأتي « ريتشارد هاس » المنظر الشهير للسياسات الأمريكية، ومدير مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في نيويورك احد اهم مراكز التفكير بل من صناع الراي لدى القادة الأمريكيين بنوع خاص.

في عدد مايو 2008 من مجلة الفورين آفيرز الصادرة عن المجلس، كتب هاس مشيرا إلى أن فكرة القطبية الثنائية قد توارت بعيدا، وان العالم في القرن الحادي والعشرين سوف يشهد ولاشك أقطابا مختلفة متعددة، حتى وان بقيت الولايات المتحدة الأمريكية الأولى بين متساوين أو بين متقدمين .

ويبدو أن نبؤة هاس في الطريق للتحقق سيما بعد ظهور تجمعات لها وزنها وثقلها على الصعيد الدولي وان كان جلها اقتصاديا مثل مجموعة البريكس، لكن هذا وفي كل الأحوال اقتطع من قدرة واشنطن على أن تكون لاعبا منفردا، وفي ذات الوقت ظهر على السطح الحضور العسكري الصيني، والساعي رويدا رويدا لمواجهة ومجابهة القوة العسكرية الأمريكية في منطقة بحر الصين الجنوبي، ومؤخرا شاهد العالم برمته أول حاملة طائرات صينية تجوب البحار والمحيطات، في رسالة لا تخطئها العين الأمريكية .

في هذا السياق يبقى الرهان الأمريكي على القوة هو الحقيقة المؤكدة والفاعلة وقد تابع العالم منذ بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وحتى كتابة هذه السطور مشهدين لاستخدام تلك القوة :

المشهد الأول: جرت به المقادير حين جاءت إلى الرئاسة شخصية محافظة هي جورج بوش الابن، وقد كان الرجل مدفوعا دفعا في طريق تعظيم القوة واستخداماتها حول العالم، ووراءه قوتان كبيرتان، اللوبي النفطي من جهة، وجماعة التيارات اليمينية الأصولية من ناحية ثانية، وقد وجدت أمريكا انه قد مضى عقد من الزمان منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وباتت القوة العسكرية الأمريكية محل تساؤل مثير وخطير ... ماذا سنفعل بهذه القوة الضاربة غير المسبوقة منذ زمن الامبراطورية الرومانية ؟

السؤال المتقدم بلاشك يهم بالدرجة الأولى واحدة من اهم القوى المحركة للقرار الأمريكي على الصعيدين المحلي والدولي، ونعني بهذه القوة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، هذا الذي حذر منه الرئيس الأمريكي ايزنهاور في مارس 1961 ، في خطاب وداعه .

هذا المجمع له أضلاع ثلاثة وجميعها نافذة، وكلها تبحث عن دور للقوة القاهرة الأمريكية في الخارج حتى يمكنها تصريف منتجاتها، الضلع الأول هو المصانع العملاقة التي تنتج الأسلحة التقليدية مثل الطائرات الحربية والدبابات المتقدمة والصواريخ وغيرها من آلات الموت والدمار .

أما ثاني الأضلاع فهم رجالات الكونجرس الأمريكي المرتبط حضورهم وإعادة انتخابهم بأصوات الناخبين، وهؤلاء الطريق اليهم هو تبرعات شركات الأسلحة الكبرى، للإنفاق على حملات الداعية واستمرار نفوذهم الكبير.

فيما الضلع الثالث والمعروف للعيان هم جنرالات البنتاجون والمشرفون على رسم الحروب ومخططاتها، هؤلاء عادة بعد انتهاء خدماتهم العسكرية يكون طريقهم واضحا إلى مجالس إدارات شركات الأسلحة، ما يعني استمرار الدائرة . عشية الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 كان سؤال القوة الأمريكية المفرطة قائما، وجاء نهار الثلاثاء ليقدم الحل السريع وان لم يكن بالضرورة الحل النموذجي، فبفعل غزوتي نيويورك وواشنطن بحسب زعيم تنظيم القاعدة وقتها أسامة بن لادن والتي هزت الإحساس الأمريكي التقليدي بالأمن، ما جعل تلك الإدارة المؤدلجة يمينيا تندفع في طريق تبني استراتيجيات تعتمد على القوة المسلحة والقوة الغاشمة، وكذا العمل المنفرد وإطلاق حملة قاضية على الإرهاب ومفاهيم العمل المنفرد، ونشر الديمقراطية في العالم إلى غير ذلك من المفاهيم والممارسات.

اعتمد الأمريكيون في ذلك الوقت مفهوم « الحرب الوقائية» إضافة إلى مبدا « الحرب العادلة»، ذلك المفهوم الديني الكلاسيكي الذي يعود إلى القرون الأوروبية الوسطى وانفتحت أبواب الحرب بداية في أفغانستان، حيث مضت القوات المسلحة الأمريكية في اكبر حرب لها منذ انسحابها من فيتنام أوائل السبعينيات، وذلك بالدخول في مواجهة مسلحة في أفغانستان ضد تنظيم القاعدة وحاضنته الأكبر أي حركة طالبان. وعلى مدى زمني قصير كانت إدارة بوش الابن بدورها تخطط لغزو العراق وهو ما حدث فعلا في مارس من عام 2003 أي بعد اقل من عامين من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبذلك وجد الساعون إلى تفعيل القوة الأمريكية طريقهم إلى سيادة مبدأ القوة الخشنة ودون أدنى فرصة للقوة الناعمة .

والشاهد انه بعد عقد ونصف العقد من الزمان على هذه المنهجية التي تعتمد النار والمرار، الدموع والقتلى، فان أحدا في الداخل الأمريكي لم يساءل نفسه - إلا قليلا - هل كان هذا هو النهج الصواب في الاختيار، وبكلمات اخرى هل استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية القضاء على الإرهاب في أفغانستان وفي بقية أرجاء العالم ؟

هناك فريق من حكماء أمريكا يرون أن واشنطن وعبر استخدامها القوة الخشنة قد قامت بهش الذباب بالمطرقة، ما يفيد بان الخسائر التي نجمت عن محاربة الإرهاب بهذا الشكل الذي لم يفسح مجالا للقوى الناعمة، اكثر ربما بكثير من نتاج الإرهاب عينه .

وعلى صعيد اخر أي صعيد العراق، فقد تحدثت واشنطن عن امتلاك النظام العراقي السابق أسلحة دمار شامل، وذهب كولن باول إلى مجلس الأمن حاملا ادعاءات وكأنها أدلة لما تقوم به إدارته، وقد ثبت للعالم اجمع وللأمريكيين انفسهم، أن قرار غزو العراق اعتمادا على القوة العسكرية كان احد أسوأ القرارات التي اتخذت في تاريخ أمريكا خلال اكثر من مائة عام لأسباب عدة :

بداية لأنه افقد أمريكا نظرة العالم لها كـ « مدينة فوق جبل«» تنير ظلمات العالم بالحرية والعدل، بالمساواة والديمقراطية، واظهرها كقوة غازية محتلة تعتمد على السياقات العسكرية فقط.

خسر الأمريكيون كذلك فكرة النزاهة والعدالة التي اتصفت بها مبادئ الآباء المؤسسين، فقد قامت حربهم على غير أساس من الحقائق، بل انتحال الأكاذيب، وتقديمها للأمم المتحدة على أنها حقائق، ما جعل بقية دول العالم تنظر لهذه الهيئة الأممية بأنها باتت عديمة الفائدة، لاسيما حين لم تقدر على أن تمنع الهجوم على دولة عضو في السياق الأممي، لها سيادتها ولها استقلاليتها .

ولعل الأمر الأكثر هولا والذي دفعت أمريكا والشرق الأوسط ثمنا فادحا له، إنما هو متصل بالإرهاب، فقد أعطت الفوضى التي خلفت غزو العراق الفرصة غير المسبوقة لنشوء وارتقاء تنظيم إرهابي جديد، ولد من بطن القاعدة، وكانت داعش بإدارة توحشها التي رأيناها في الأعوام القليلة الماضية.

ربما يعن للبعض التساؤل : وما الداعي إلى هذا الحديث برمته الآن ؟

يبدو الجواب مرتبطا بالتطورات والتصورات التي تشمل إدارة الرئيس ترامب حيث نرى ميلا يكاد يكون مشابها لما جرى خلال إدارتي بوش الأول، ما يدعو القوة الأخرى حول العالم أي روسيا بنوع خاص للمضي في طريق مماثل ليعود العالم ومن جديد إلى دائرة التنافس .

ماذا عن روسيا وما يجري هناك، وهل تفضل بدورها القوة الناعمة أم الخشنة ؟