أعمدة

نوافذ :التعددية الثقافية.. استحقاقات طبيعية

26 مايو 2018
26 مايو 2018

بقلم: أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تفرض التعددية الثقافية شروطها المحورية في أي تجربة تنموية، سواء ارتقت هذه التجربة إلى السمو من خلال حيوية برامجها وخططها؛ وحققت شروطها المفروضة، أو ظلت تمارس نشاطها في حدودها الدنيا وفق إمكانياتها، وهذه الشروط هي التي تضع صانع القرار في مواقف فيها من الصعوبة ما فيها، وفيها من الإحراج ما فيها، وفيها من «غض» الطرف ما فيها، ولذلك تعيش مختلف التجارب التنموية في العالم حالات من الشد والجذب، ومن المواجهة والمهادنة في كثير من الأحيان، كل ذلك وصولا إلى حالة من البقاء على كفتي الميزان عند مستوى أفقي متواز، لأن رجاحة أية كفة معناه الدخول في خندق مظلم، وهذه من الحالات التي تتحاشاها مختلف التجارب.

عندما نزور مدينة من المدن الكبرى؛ لا نستغرب عندها عندما نرى هذه التموجات البشرية المختلفة المشارب، والألوان، والعقائد، والعادات، حيث ترى ـ على سبيل المثال - فردا ما من إحدى قارات العالم، من آسيا، أو إفريقيا، أو أمريكا، أو استراليا، أو أوروبا، يرتدي ملابسه التقليدية، أو يكون على هيئة ما، هي موجودة فقط في بلده، أو يمارس قيما متعددة، لا تمارس إلا في بلده، أو يتقيد بدين لا يمارس إلا في بلده، أو يعتقد جازما بصحيح قيمه التي جلبها من بلده، أو يحتفظ بلغته التي هي لغة بلده فقط، ولا يأخذك العجب أكثر عندما تقترب من آخر، وقد مضى جل عمره في تلك المدينة، فتجد منزله صورة مصغرة من بلده الأصل، الذي أتى منه منذ عشرين عاما، أو أكثر، وربما تستغرب أكثر عندما تعلم أنه الحريص أبدا على تغذيته أطفاله بكل ما هو موجود في بلده الأصل، وليس في البلد الذي يعيش فيه حاليا، حتى وإن استقر به المقام ولا ينوي العودة إلى بلده الأصل الذي أتى منه، وهو لا يزال شابا يافعا، فكل البهرجة التي تتراءى أمام عينيه، ويعيشها طوال الـ (24) ساعة في اليوم تتماهى صورها وتنزوي عندما تحضر تقاسيم المنشأ، وصور الطفولة والمكان، فلا تملك الثانية إلا أن تتكور في زاوية ضيقة، بينما تتسع مساحة الاهتمام، والتوظيف لصور الأصل، في حالة ربما تدهشك للمرة الأولى، ولكنها تتوغل في إقناعك، كلما أعطيتها مساحة من التفكير، وكلما قست ذلك على تجربتك الإنسانية.

وبقدر التحدي الذي يعيشه صانع القرار في أي بلد كان في حقيقة قبض العصى من النص، وذلك لإيجاد حالة من التوازن بين كل هذه التدفقات البشرية المختلفة في قيمها، وفي عقائدها، وفي ألوانها، وفي توجهاتها، وفي قناعاتها، وفي طموحاتها، وفي حرصها على البقاء على صورتها الأصل، إلا أن في ذلك الكثير من المكاسب في مساحة الزخم الثقافي الذي يعيشه الفرد في هذه الدولة أو تلك، لأن وجود هذا التنوع الثقافي الذي يمثله هؤلاء البشر، يعكس السخاء الاجتماعي الذي تعيشه هذه الدولة أو تلك، وليس في ذلك من خطورة مباشرة على السكان الأصليين، لأن ثيمة الحرص على المكون الاجتماعي – سبحان الله – يبقى فطرة إنسانية ليس يسيرا التنازل عنه، وإذا حصل نوعا من التأثير، فإنه يظل محدودا؛ من ناحية؛ ويحتاج إلى أجيال متعاقبة من ناحية أخرى، حتى يمكن ملاحظة خلخلة الصورة الاجتماعية، عن مكوناتها الأصلية.

وحالة الصدام التي تحدث بين الأجيال، هي حالة طبيعية، وليست موقوفة على مكون جغرافي، أو اجتماعي، أو ثقافي، فكل بلدان العالم تعيش هذا الحراك الاجتماعي، حتى على مستوى سكان الأصليين أنفسهم، وهذا أمر معاش وملاحظ، وكل التجارب الإنسانية تعيش حالات من المخاض ولن تتوقف، فهي في كل حالاتها معبرة عن ديناميكية، تعكس حيوية الشعب وقدرته على استيعاب الاختلاف.