روضة الصائم

شهر رمضان مدرسة عظيمة لضبط النفس وتعديل الطباع وتقويم السلوك

25 مايو 2018
25 مايو 2018

أفضلها الاتصاف بالسجايا الحميدة والتزين بالخصال الحسنة -

حاورهما: سالم بن حمدان الحسيني -

شهر رمضان مدرسة عظيمة لضبط للنفس، وتعديل الطباع، وتقويم السلوك، فهو مدرسة راقية للتحلي بالأخلاق الكريمة، والاتصاف بالسجايا الحميدة، والتزين بالخصال الحسنة، كما انه مدرسة للارتقاء بالفضائل والمكارم. فما أحوج الإنسانية الآن وهي تعاني أزمةً أخلاقية أن تتخلق بأخلاق الإسلام؛ صدقًا وأمانةً. تسامحًا ورحمةً. صبرًا وحلمًا، وفاءً وشفقةً. كما أن هذا الشهر الفضيل فرصة سانحة لنفع الناس وعمل الخير لهم، ففيه للمسلم يفتح بابان: باب رباني، وباب إنساني، الباب الرباني يكون بالصوم والصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، والباب الإنساني يكون بالتصدق، والبذل، والإنفاق، والإحسان. فهذا الدين الحنيف دين الوسطية والاتزان فهو لا يقدّس الجسد وشهواته الحسية فقط، ولا يقدس الروح إلى حد الغلو، وإنما يوازن بينهما حتي يجعلهما شريكين متماسكين لا متصارعين بخلاف الأنظمة المادية، والمتأمل في حال الناس يجدهم يتفاوتون في ذلك ويختلفون، وهذا التفاوت وهذا الاختلاف إنما هو ناتج عن نظراتهم المتباينة لهذا الشهر الفضيل.. ذلك ما أكده الدكتور يوسف بن إبراهيم السرحني والشيخ متولي الصعيدي في الحوار التالي معهما:

بداية يحدثنا الدكتور يوسف بن إبراهيم السرحني عن أهمية الوقت وخصوصا في هذا الشهر الفضيل وكيفية استغلاله الاستغلال الأمثل فيقول: لشهر رمضان نكهته الخاصة وطعمه المميز؛ إذ له نفحات وبركات وخيرات، ولهلاله إشراقات وتجليات وأنوار، لياليه زاهرة، وأيامه عاطرة، وأوقاته عامرة، فيه تتعطر الأجواء، وتصفو القلوب، وتسمو النفوس، وتزكو الأخلاق، وتتلاقى الأيدي؛ فشهر رمضان شهر عبادة وعمل، وشهر طاعة وتعاون، وشهر تكاتف وتآزر، وشهر إحسان وعطاء، فهو سوق من أسواق الآخرة؛ التجارة فيه رابحة؛ فقد روى الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ». وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا الصَّوْمَ. فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. ولَخَلُوف فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَالصَّوْمُ جُنَّة. وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سابَّه أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صائم».

ولقد وعى السلف الصالح من الصحابة والتابعين وغيرهم عظمة شهر رمضان وفضله، وما فيه من فضائل، وما يمتاز به من خصائص، وأدركوا قدسية الصيام، وما فيه من منافع وفوائد وفرائد، فكان شهر رمضان عندهم غنيمة من الغنائم، وموسمًا من مواسم الخير؛ يتسابقون فيه للحصول على أكبر قدر من الثواب والأجر، ويتنافسون فيه للفوز بأسمى المنازل، وأرفع الدرجات، وأعلى الجنات.

وأضاف: إن الناظر إلى المسلمين من حيث واقعهم في شهر رمضان، والمتأمل في حالهم في شهر الصيام؛ يجدهم يتفاوتون في ذلك ويختلفون، وهذا التفاوت وهذا الاختلاف إنما هو ناتج عن نظراتهم المتباينة لهذا الشهر الفضيل؛ إذ كل فئة من المسلمين تنظر إلى شهر رمضان من زاوية مختلفة، ووفق رؤية مغايرة في ضوء مشارب تلك الفئة وأهدافها وغاياتها التي ترنو إليها وتسعى إلى تحقيقها وتطمع في اكتسابها، وعليه فمن المسلمين من يوفق في استغلال شهر رمضان بإعماره بصنوف الطاعات، وبشتى أنواع القربات؛ حيث يدركون حقيقة شهر رمضان المبارك، فينظرون إليه على أنه شهر عبادة وعمل، وشهر علم ودعوة، وموسم طاعة وجد واجتهاد، ومضمار للتنافس في الخير، والمسارعة إلى المعروف، والتعاون على البر، والتسابق للتقرب إلى الله تعالى بشتى صنوف الطاعات، والأعمال الصالحات، وفرصة لمحاسبة النفس ومجاهدتها وتقييمها وضبطها وتوجيهها، ومحطة سنوية للتزود بزاد الإيمان والتقوى.

وأوضح قائلا: إذا كان الزراع يتنافسون في الزراعة في موسم الغرس والبذر، بغية الحصول على إنتاج سليم وحصاد كثير وخير عميم، وإذا كان التجار يتنافسون في التجارة في موسم إقبال الناس على الشراء؛ طمعًا في الحصول على ربح كبير ومكسب وفير، فإنه من الأولى بالمسلمين أن يتنافسوا ويتسابقوا في شهر رمضان المبارك؛ لأنه موسم التجارة مع الله تعالى، وموسم الغرس في الدنيا. ومضمار التنافس في الخير. وفي المقابل هناك من المسلمين من يسيء استغلال شهر بجعله موسمًا للهو واللعب، وفرضة للخمول والكسل؛ فيجعل ليل رمضان سهرًا، ونهاره نومًا، وكأن شهر رمضان شهر للتسلية والمرح واللعب، وكأنه شهر للخمول والكسل الفتور، وهذا كله مناف لقدسية الشهر وعظمته وفضله، ومعارض لحقيقة العبادة فيه وعظيم ثوابها، ولكن لا يعني هذا الرفض المطلق لكل ما ذكر، وإنما يجب أن يكون كل شيء بحسبه في حدود الاعتدال، ووفق ضوابط الإسلام وتعاليمه ومبادئه السمحة، مع وجوب مراعاة قدسية الشهر الفضيل، واحترام حرمات الناس.

وأشار إلى أن هناك من يمارس في شهر رمضان سلوكيات خاطئة، ويأتي بعادات منافية للقيم والمبادئ ودخيلة على المجتمع، كإزعاج النائمين بالصراخ، ومضايقة المارة بالحركات، والتسكع في الحارات والأحياء السكنية، واللعب في الطرقات، مع أن شهر رمضان مدرسة عظيمة لضبط للنفس، وتعديل الطباع، وتقويم السلوك؛ فشهر رمضان مدرسة راقية للتحلي بالأخلاق الكريمة، والاتصاف بالسجايا الحميدة، والتزين بالخصال الحسنة، شهر رمضان مدرسة للارتقاء بالفضائل والمكارم، ولا ريب أن الأخلاق الكريمة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، يقول بعض الحكماء: سعة الأخلاق كنوز الأرزاق، نعم؛ لا نسع الناس بأموالنا وثرواتنا، لكن نسعهم بأخلاقنا وحسن تعاملنا، فصاحب الخلق الرفيع يتربع في سويداء قلوب الناس، فبالأخلاق تفتح القلوب وتكسب النفوس، وبالأخلاق ترقى الأمم وتتقدم الشعوب، وبالأخلاق الفاضلة تبنى الأوطان ويزدهر العمران، والمسلم صاحب رسالة سامية في الحياة، وصاحب دور محوري في الوجود، بيد أنه لا يؤدي رسالته في الحياه، ولا يقوم بدوره في الوجود إلا بسمو أخلاقه، ورقي تعامله، وحسن تصرفه، فالمسلم بدماثة خلقه يكون غرة في جبين الدهر، وشامة في المجتمع بين الناس، يكون كالنجم الزاهر، وكالشمس الساطعة، وكالعطر الزاكي، وكالغيث العميم.

وبيّن السرحني قائلا: إنه مما تجب معرفته أن الإسلام لم ينتشر في يوم من الأيام بالمال ولا بالجاه، ولا بالقوة والإكراه، كما أنه لم ينتشر بالإغراء وشراء الذمم، ولا بالتحايل والالتواء، وإنما انتشر بحسن خلق المسلمين، وطيب تعاملهم مع الآخرين، فهذا الداعية الكبير عبد الله بن القاسم العماني البسيوي؛ المكنى بأبي عبيدة الصغير، والذي تتلمذ على يد الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي رحمه الله تعالى، وقد تخرج في سردابه، ومنه خرج حاملًا لواء الدعوة إلى الله تعالى، يخرج تاجرًا إلى الصين في النصف الأول من القرن الثاني الهجري سنة 133هـ حيث وصل ميناء كانتون وفي تلك الديار البعيدة الشاسعة نشر الإسلام بأخلاقه وحسن تعامله حتى أن امبراطور الصين آنذاك لقبه «جنرال الأخلاق الطيبة» فما أحوج الإنسانية الآن وهي تعاني أزمةً أخلاقية أن تتخلق بأخلاق الإسلام؛ صدقًا وأمانةً. تسامحًا ورحمةً. صبرًا وحلمًا، وفاءً وشفقةً.

أما عن أفضل الأعمال التي ينبغي للمسلم أن يقوم بها خلال هذا الشهر المبارك والتي تعود بالخير والنفع عليه وعلى مجتمعه ووطنه وأمته فقال: شهر رمضان فرصة سانحة لنفع الناس وعمل الخير لهم، ففيه للمسلم يفتح بابان: باب رباني، وباب إنساني، الباب الرباني يكون بالصوم والصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، والباب الإنساني يكون بالتصدق، والبذل، والإنفاق، والإحسان كإفطار صائم، وإغاثة ملهوف، وإعانة محتاج، ولا ريب أن الإحسان خلق رفيع له تأثير عجيب وسريع في النفس، لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وطبعت على التأثر بمن أسدى إليها معروفًا، وصنع لها جميلًا، وقدم لها خيرًا؛ لذا فإن من أجل الطاعات ومن أعظم أبوب البر لا سيما في شهر رمضان أن تتضافر جهود الخيرين من أبناء المجتمع في تقديم يد العون للفقراء والمساكين، ومد يد المساعدة للمعوزين والمحتاجين، وذلك بالعمل الجماعي التطوعي من خلال الجمعيات أو الفرق الخيرية، حيث يقومون بتوعية الناس بضرورة الإنفاق وحثهم عليه وترغيبهم فيه، وبيان ما له من أجر عظيم وثواب جزيل عند الله تعالى، وما له أيضًا من فوائد جليلة على المجتمع من حيث تعميق أواصر الترابط، وبث روح التعاون بين المسلمين، وتربية النفس على الشعور بالآخرين والإحساس بأحوالهم، كل ذلك لجمع ما بمكن جمعه من أصحاب الفضل، ومن أهل الخير من الصدقات بكل أنواعها، والقيام بإيصالها إلى مستحقيها للتخفيف عنهم ومواساتهم والوقوف بجانبهم؛ فترتسم في وجوههم البسمة، وتبدو على محياهم السعادة، فيحدث التراحم والتلاحم، ويتحقق الإخاء الإسلامي، وبتجسد الرباط الإيماني، عندئذ يكون أبناء المجتمع كالجسد الواحد.

من جهته أوضح الشيخ متولي الصعيدي إمام وخطيب الجامع الأزهر الشريف سابقا متحدثا إلينا عن أهمية الوقت وخصوصا في هذا الشهر الفضيل وكيفية استغلاله الاستغلال الأمثل أن الله سبحانه تعالى أودع في أيام شهر رمضان ولياليه من القربات والطاعات ما لم يودع في غيره من الشهور، من صيام للفريضة وقيام لليل وقراءة للقرآن الكريم والتصدق والتقرب إلى الله بخصال الخير وأعمال البر، وغير ذلك من أنواع الطاعات وألوان العبادات، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وضاعف الثواب والأجر على أدائها تامة غير منقوصة، لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (من تقرب فيه «أي في شهر رمضان» بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)، فاغتنمه أيها القارئ الكريم لما فيه من مضاعفة الأجر والثواب، ورفع الله تعالي الحرج عن أصحاب الأعذار تيسيرا عليهم ورعاية لحالهم فقال تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون).

وأضاف: إن المسلم سوف يحصل على الأجر المضاعف عما يقوم به من أعمال الخير وخصوصا في هذا الشهر الفضيل حيث يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها فقال أبو مالك الأشعري لمن هي يا رسول الله؟ قال لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام)، وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام وإطعام الطعام والبعد عن اللغو والرفث، وحين يتوازن المسلم في عبوديته لربه تكون هذه الخصال وتلك الأعمال دأبه في السنة كلها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر أنا يا رسول الله، قال من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر أنا يا رسول الله، قال من تصدق بصدقة؟ قال أبو بكر أنا يا رسول الله، قال فمن عاد منكم مريضا؟ قال أبو بكر أنا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)، وهذا يدل على ما جمعه الله لنا في شهر رمضان المبارك من الخير، وما علينا إلا أن نغتنم أوقاته وأيامه ولياليه في كل أنواع العبادات وألوان الطاعات، لنفوز بالرضوان من رب العامين.

وأكد قائلا: ومما ينبغي أن نشير إليه أن الله تعالى جعل العبادات أنواعا والطاعات ألوانا، فلا يقتصر المسلم على جانب دون بقية الجوانب، فالإسلام يجمع بين العبادات والمعاملات والأخلاق، فلا بد من تنظيم الأعمال وترتيبها على النحو الذي يحقق المصلحة بشيء من التوازن والتكامل، عموما طوال العام وفي شهر رمضان على سبيل الخصوص لضيق وقته وقلة أيامه ولياليه لقول الله تعالى (أياما معدودات)، ونبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم نظم لنا أعمال البر والخير على مدار اليوم والليلة، ومما يدل على تنظيم الأعمال وترتيبها ما كان بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله عنهما، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وافق عليه «والإقرار نوع من السنة النبوية»، فحين آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة من مكة المكرمة إلي المدينة المنورة، قال سلمان لأبي الدرداء (إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق سلمان - وزاد الترمذي - وإن لضيفك عليك حقاً)، وفي هذا الحديث من الفقه ما يدل على منهج الاعتدال والتوازن بين مطالب الروح والجسد، فليس المطلوب أن يكون المسلم منعزلا في صومعته عابدا منقطعا عن الدنيا وما فيها ومن فيها، وربما يعيش من عمل غيره وهذا مخالف لتعاليم السماء، وكذلك ليس مطلوبا منه أن يكون منخرطا في أعماله الدنيوية المادية فقط التي تطغي على حياته وشخصيته، بل عليه أن يتوازن في عبادته لربه، وأن يتفاعل مع الحياة من حوله فالعبادة وحدها لا تعمر أرضا إلا بالتفاعل مع جنبات الحياة، وهذا المفهوم واضح تمام الإيضاح من قول الله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، والمعنى أنه سبحانه وتعالى طلب منكم عمارتها، وعمارتها بالتوازن بين مطالب الروح والجسد.

وأردف قائلا: يجدر بالمسلم أن يحقق هذه المعادلة، مؤديا حق ربه من صلاة وصيام وقراءة للقرآن في هذا الشهر الفضيل، مع الدعاء والرجاء والذكر والاستغفار، ففريضة الصيام تشتمل على كل هذه العبادات، قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام منعته الطعام والشراب نهارا فشفعني فيه ويقول القرآن منعته النوم ليلا فشفعني فيه قال قيشفعان)، وجدير بالمسلم أيضا أن ينتبه مع صيامه وقيامه إلى حقوق زوجته وأولاده فلا يقصر في ذلك ولو بدعوى العبادة أو مزيد من الطاعة، وعلى الزوجة أن تقدر له عبادته فتصبر عليه إن قصر نحوها، قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (وفي بضع أحدكم صدقة)، وعليه أيضا أن لا يقصر في حق نفسه مزكيا لها حتى يستطيع مواصلة الحياة بهذا التوازن، ومن تمام التوازن أن ننتبه إلى الخلق الكريم فهو صمام الأمان لكل أمر، فالصوم مدرسة أخلاقية لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)، وفي سبيل العموم يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

ولعل في حديث حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب ما يجلي هذا المعنى، فقد كان حنظلة أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة! قال سبحان الله! ما تقول؟ قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً قال أبو بكر رضي الله عنه فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟ قلت يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) ثلاث مرات، وعلى هذا فإن الإسلام لا يقدّس الجسد وشهواته الحسية فقط، ولا يقدس الروح إلى حد الغلو فيها، وإنما يوازن بينهما حتى يجعلهما شريكين متماسكين لا متصارعين بخلاف الأنظمة المادية.