أفكار وآراء

منغصات صيفية

23 مايو 2018
23 مايو 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

التحولات العاصفة التي تجري على ساحتي الاقتصاد والسياسة في العالم، في هذا الصيف على نحو خاص، لا تترك لاي صانع قرار فرصة لالتقاط الأنفاس، وتجرى بشكل شبه لحظي عمليات رصد لحسابات المكاسب والخسائر، ومع ذلك يظل حجم المجهول مهولا. تتعلق الأنظار بالحرب التجارية بين الصين وأمريكا تارة، وتارة أخرى يستيقظ بريق الأمل في اطفائها، وبعد أن بدا إنهما تصالحتا، تاه الجميع في تفسير ما توافقت عليه الدولتان وغمضت الحسابات أكثر وأكثر.

تعاد الكرة بنفس الفزع والغموض في ملف العلاقات التجارية بين ضفتي الأطلسي فمنذ واقعة رسوم ترامب على واردات الألومنيوم والحديد والاتحاد الأوربي يتوعد وينذر ويحذر ويلوح ويشوح، ويوجه مفكروه أعنف الانتقادات لأوروبا العاجزة أو القليلة الهمة. وما كادت أوروبا تكف عن النواح والشكوى من غدر الزمان والحليف الأمريكي وما كادت المفوضية الأوروبية تبلور بعض المقترحات العملية لمواجهة الموقف الأمريكي، حتى فاجأ ترامب أوروبا (‏قبل العالم كله)‏ بقرار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وفرض عقوبات على الشركات التي تتعامل مع إيران، وهي شركات غربية كبرى بالأساس، ما أهاج أعصاب قادة أوروبا وعلى رأسهم المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي.

ولَم تتوقف الصدمات بالنسبة إلى الأوروبيين عند هذا الحد  ففي كل يوم كانت أوروبا المتعاملة مع روسيا بحكم عوامل عدة تنتظر ولأسباب عمليه بحتة ان يخف الصدام بين أمريكا ترامب وبين روسيا، حتي تستطيع ضبط العلاقة مع الروس على بوصلة مصالحها، فإذا بها تتفاجأ بتصعيد جديد كل يوم بلغ حد تهديد من يشترون الغاز الروسي أو يدعمون إقامة خط السيل الشمالي والذي هو ضرورة حياة لعدة دول أوروبية.

على مستوى آخر تواصل المنغصات الاقتصادية العالمية والإقليمية انتعاشها فالتهديد بحرب بين إيران وإسرائيل على أشده بكل ما يمكن أن يجره على المنطقة من عواقب اقتصادية وغير اقتصادية، وتتزايد يوما بعد يوم الدعوات إلى إحلال عملات أخرى محل الدولار في تسوية صفقات النفط، وبلغ الأمر أن الاتحاد الأوروبي بذات نفسه يلوح بذلك، وكأنه يريد أن يقول للأمريكيين انه ليس بلا أسلحة أو أوراق ضغط كما يتصور ترامب، وبطبيعة الحال فهناك سجل سابق لهذه العملية.. وقد اكتسبت زخما بعد أن غدت احد استراتيجيات الصين وروسيا وربما الهند ودوّل أخرى ما يهدد النظام النقدي العالمي.. صحيح انه نظام جائر ومتحيز للعملة الأمريكية لكن التصدى له في غيبة بديل شبه متفق عليه دوليا ومع آليات واضحة وأيضا في ظل تنمر أمريكي يزداد شراسة يوما بعد آخر كلما قويت موجه مجابهة سيادة الدولار.. كل ذلك أيضا ينذر بتداعيات جسام.

وثمة منغصات تأتي من مواضع لم تكن على البال من مثل سعي الرئيس التركي الحثيث لإنهاء استقلالية البنك المركزي بدعوى أن رئيس الدولة هو الذي يتحمل المسؤولية عن تأثيرات السياسة النقدية، وأفصح أردوغان عن رغبته في خفض أسعار الفائدة لتشجيع الاستثمار بعض النظر عن مستوى التضخم المرتفع. إن  مشكلة مثل تلك الأفكار أنها معدية.. تبدأ كشيء غير قابل للتصديق. أقرب إلى المزحة، ثم سرعان ما تجد مناصرين في الداخل والخارج، وكما تشير الأنباء فقد وجدت لها صدى حتى في الهند! والمتابع للحياة الاقتصادية جيدا يعلم بالفعل مستوى الحساسية المرتفع في جهات كثيرة في كل دولة ناحية البنك المركزي واستقلاليته والتنازع الأزلي هنا بين وزارة المالية والبنك المركزي ليس غريبا كما أنه ليس الوحيد، وعليه فان مخاطر الجور على قوانين وآليات عمل البنوك المركزية تتزايد بالفعل وتحفزها أكثر موجات التفلت من القواعد الراسخة عالميا مثل ضرب عرض الحائط بقواعد التجارة الدولية ومحاولات التفلت داخل كل دولة بذاتها من الارتباطات والقواعد حتي ولو كانت في المجمل في مصلحة الدولة كحالة خروج إنجلترا من الاتحاد الأوربي، ولا أستطيع في هذه اللحظة أن أحدد ماذا سيحدث للمعاملات كلها إذا اهتزت مكانة البنوك المركزية أو انحدرت والتي هي أشبه بالمحاكم العليا /‏‏ الاقتصادية والنقدية في هذه الحالة /‏‏ في كل دولة ؟.

ولا يحتاج القرّاء إلى تذكير بالمخاطر التي يمكن أن تترتب على اضطراب قواعد اللعبة الراهنة بين ترامب وقيادة كوريا الشمالية، والمخاوف التي تسود الأسواق من استمرار رفع الفائدة في الولايات المتحدة وارتفاع الدولار المزعج، والأزمة التي تفجرت من جديد في الأرجنتين وكنا قد نسينا إلي حين أزماته السابقة،  وتهديدات أمريكا بعدم قبول نتائج انتخابات منتج مهم للنفط هو فنزويلا، غير أن ما أريد التوقف عنده هو نمط الحلول الذي يجرى في تلك الأجواء للازمات المطروحة، وأول ما نلاحظه عليه انه يتميز بعدم شفافية مخيف فلا أحد مثلا يعلم كيف تم تسوية النزاع الصيني الأمريكي وعلى حساب من بل وعلي حساب أي قواعد أو قوانين دوليه وهل يمكن تطبيق نهج الحل في حالات أخرى لكن مع دول اقل وزنا أم أن للكبير معيارا وللصغير آخر ؟.

النقطة الثانية: إن الحلول تنطلق من الأساس في بيئة جرى ويجرى فيها الدهس العلني للقوانين الدولية والاتفاقيات التجارية بحيث إن خطر تهميش منظمة التجارة العالمية أصبح حقيقيا ومفزعا أيضا ....

ثالث الملاحظات: إن كل حل لأي مشكلة يبدو كصفقة ظرفية وارد أن تنهار هي الأخرى في أي لحظة وتحت تأثير أي أزمة داخلية طارئة هنا أو هناك.. ويكفي مثلا أن يتعرض الرئيس الأمريكي لموقف حرج جديد داخلي ليتم اتخاذ تدابير أخرى ضد ما تم الاتفاق عليه أو لا تتفق معه، أو التحلل ببساطة مما تم، وحين تنزل المنافسات بين الدول إلى حد تهديد من يساند ملف المغرب الشقيق في المونديال بعد بعد القادم بالويل والثبور فقل على السوق الحرة والمنافسة الحرة والاقتصاد الحر وربما الصحافة الاقتصادية الحرة ؟ السلام. لا مسطرة قياس في أي ملف مأزوم، ولا كابح يحدد ما الذي يمكن استخدامه من أوراق لعب أو كروت تفاوض كما نقول وما الذي لا يمكن أو لا يجب بحاله استخدامه. ويزيد من وطأة المناخ الاقتصادي الحالي تشتت أصوات الضغط الشعبية والإنسانية والفكرية والثقافية والعلمية والتي كان يمكن لها أن تعيد الشاطحين إلى صوابهم أو بعض صوابهم، وفِي مقابل هذه الصورة المعتمة  يبدو أن ثمة بريق أمل يخصنا فكياناتنا ألعربيه الحاليّة سواء في إطار الجامعة العربية أو غيرها، والتي سخرنا آلاف المرات من كرتونيتها أو ضعفها لديها فرصة لتقوى وتقود وتؤثر لم تتوفر لها من قبل في ظني، والسبب أنها لم يعد لديها موضع للتقهقر هذا أولا، وثانيا لا يزال صوت القانون والحق والواجب والعدل والإنصاف نابضا فيها. مشكلتها الكبرى كانت أنها غير قادرة على تفعيل ما تنادي به ولا أدوات لديها للتأثير والتغيير واليوم ستجد أغلب الدول العربية على الأقل نفسها أحوج ما تكون إلى تقوية تلك الكيانات وبالتبعية تعضيد الروابط الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والتمويلية والخدمية.. إلخ بين الدول العربية وتوحيد الصوت العربي في القضايا العالمية المدوية التي أشرت إليها مثل مستقبل منظمة التجارة والمدفوعات الدولية والترتيبات التجارية العالمية والإقليمية ومحاولة فرض ما هو أمريكي باعتباره هو قانون العالم أو القانون البديل للنظام العالمي الراهن. هل ما أعرضه ينطلق من أساس موضوعي أم يغلب عليه حسن النية ؟ تقديري أنه لا عاصم اليوم من طوفان الاجتياح المتهيج لكل قيمة وقاعدة دولية سوى عمل عربي مشترك، كانت قد استقرت قواعده منذ عقود، لكن حان الوقت أن يتم تفعيله لتظهر فوائده لكل بلد وللإقليم ككل.