أفكار وآراء

الرعاية الصحية للجميع ممكنة

21 مايو 2018
21 مايو 2018

الايكونومست - ترجمة قاسم مكي -

بمقاييس عديدة، لم يحدث أبدا أن كان العالم بمثل العافية التي يتمتع بها الآن. فمنذ عام 2000 هبط عدد الأطفال الذين يموتون قبل سن الخامسة بحوالي النصف تقريبا إلى 5.6 مليون طفل. وبلغ متوسط العمر 71 عاما. وهذا الأخير مكسب تحقق في خمسة أعوام. كما يتم تحصين المزيد من الأطفال. وتتراجع إصابات الملاريا والسل والأيدز، رغما عن ذلك ربما لم يحدث أبدا أن كانت الفجوة بين التقدم الذي تحقق فعلا والإمكانيات التي يتيحها الطب بمثل اتساعها الراهن. فنصف العالم على الأقل لا يحصل على ما تعتبره منظمة الصحة العالمية ضروريا بما في ذلك رعاية الحوامل وتوافر الناموسيات المعالجة بمبيدات الحشرات وفحص سرطان عنق الرحم والتطعيم ضد الدفتيريا والتيتانوس والسعال الديكي. أما عمليات الجراحة الأساسية والآمنة فغير متاحة لحوالي 5 بلايين نسمة. ومن يتمكنون من مقابلة الطبيب غالبا ما يدفعون رسوما باهظة. إذ ينفق أكثر من 800 مليون شخص 10% من دخل الأسرة السنوي للعلاج. ويصرف ما يقرب من 180 مليون نسمة ما يزيد عن 25% من دخلهم لهذا الغرض. أما نوعية العلاج الذي يحصلون عليه مقابل ذلك فغالبا ما يدعو إلى الرثاء. ففي دراسات عن الاستشارات الطبية في الريف الآسيوى والعيادات حصل ما بين 12 % إلى 26% فقط من المرضى على التشخيص الصحيح . وهذا هدر رهيب. إن الهدف من فكرة الرعاية الصحية للجميع معقول ويمكن تحقيقه وعملي حتى في البلدان الفقيرة. وبدونه ستضيع سدى الإمكانيات التي يتيحها الطب الحديث. (بحسب منظمة الصحة العالمية تعني الرعاية للصحية للجميع أو الشاملة أن يكون في مقدور كل الناس ومجتمعاتهم المحلية استخدام الخدمات المعززة للصحة والخدمات الوقائية والعلاجية والتأهيلية والمسكنة للأوجاع التي يحتاجونها على أن تكون هذه الخدمات بمستوى فعال ولا تشكل عبئا ماليا لمستخدمها – المترجم.) الرعاية الصحية للجميع معقولة بذات المنطق الذي يجعل التعليم الأساسي للجميع معقولا، على سبيل المثال. فهي تفيد المجتمع والأفراد كذلك. وفي بعض الدوائر ترفع هذه الفكرة من ضغط الدم (تغضب البعض) لأنها توحي بالنزعة الأبوية والإكراه أو بما هو أسوأ. إذ لا يخفى أن خطط التأمين الصحي الحكومي تتطلب دعم الأغنياء للفقراء والشباب لكبار السن والأصحاء للمرضى. ويجب أن يتدبر واضعو خطط الرعاية الصحية الشاملة وسيلة لإجبار الناس على المساهمة من خلال الضرائب مثلا أو إلزامهم بشراء بوليصة تأمين صحي. لكن ثمة حجة ترتكز على مبدأ ونزعة ليبرالية لتبرير الرعاية الصحية الشاملة. فمن المعقول أن يرغب كل شخص في التمتع بالصحة الجيدة لكي يتمكن من تحقيق قدراته الفردية الكامنة لديه. والرعاية الصحية الشاملة توفر هذه الصحة الجيدة مما يجعلها وسيلة تنموية. فالعلاج الذي يتعذر الحصول عليه والغالي والبائس يكلف كثيرا. كما يعاني المرضى في مواصلة تعليمهم أو المحافظة على انتاجيتهم في أماكن عملهم. ولا يمكن تطوير الأراضي الزراعية إذا كانت بيئتها مملوءة بالطفيليات الناقلة للأمراض. وبحسب دراسات عديدة حين يأمن الناس عافية أبدانهم يقبل المزيد منهم على تأسيس أنشطتهم الاقتصادية الخاصة بهم. والرعاية الصحية للجميع ميسورة كذلك . فلا يلزم ان يكون البلد غنيا كي يتمكن من توفير علاج لجميع سكانه ولو كان أساسيا فقط. إن الرعاية الصحية خدمة كثيفة العمالة. ويمكن للعاملين في مجال صحة المجتمع الذين يحصلون على رواتب أقل نسبيا مقارنة بما يحصل عليه الأطباء والممرضون تحقيق الكثير في البلدان الفقيرة. حقا تنفق هذه البلدان سلفا أموالا كثيرة على الصحة ولكنها لا تكون فعالة في الغالب. ففي الهند ونيجيريا مثلا تشكل المساهمة التي يتوجب على الطرف المؤمن له (المرضَى ) تسديدها لمقدم الرعاية الصحية أكثر من 60% من الإنفاق على الصحة. ومن الممكن تقديم المزيد من الخدمات إذا تم اقتسام تلك الأموال ( ومخاطر المرض أيضا) بطريقة جماعية. إن جدوى تقديم الرعاية الصحية للجميع تؤكده عدة نماذج رائدة. فشيلي وكوستاريكا تنفقان على الصحة مقابل الفرد حوالى واحد على ثمانية مما تنفقه الولايات المتحدة ولديهما متوسط عمر مماثل لها. وتنفق تايلاند 220 دولارا للفرد على الصحة سنويا لكن النتيجة مقاربة لبلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. فمثلا معدل وفياتها المتعلقة بالحمل أعلى قليلا من نصف معدلها وسط الأمهات الأمريكيات من أصول إفريقية. كما تبنت رواندا نظام تأمين صحي مجتمعي لأكثر من 90% من سكانها. وكانت نتيجة ذلك تقلص معدل الوفيات وسط المواليد من 120 في كل ألف مولود عام 2000 إلى أقل من 30 مولودا في العام الماضي. كذلك الرعاية الصحية للجميع عملية. فهي وسيلة للحيلولة دون أن يحمل من يحصلون على الرعاية مجانا الآخرين تكاليف عدم تغطيتهم التأمينية، مثلا من خلال تكدس المرضى في عيادات الحالات الطارئة أو نشر الأمراض المعدية. ولا يستلزم تقديم الرعاية الصحية للجميع توسعا حكوميا. إذ يمكن للجهات التأمينية ومقدمي الرعاية من القطاع الخاص لعب دور هام فيها. في الواقع إن مثل هذه المقاربة العملية هي بالضبط ما تحتاجه ثورة التكلفة المنخفضة. لنأخذ مثلا تصميم برامج التأمين الصحي. فبلدان عديدة تبدأ تطبيقها من خلال جعل مجموعة صغيرة مؤهلة للحصول على عدد كبير من المنافع توقعا منها بإضافة مجموعات أخرى لاحقا.( عادة ما يكون موظفو القطاع العام هم المستفيدون من ذلك.) وهذا ليس فقط عدم إنصاف ولكنه أيضا يخاطر بإيجاد معارضة لنشر مظلة التأمين كي تشمل آخرين. والخيار الأفضل هو تغطية أكبر عدد ممكن من الناس حتى إذا كانت الخدمات المتوافرة شحيحة كما هي الحال في برنامج التأمين الشعبي «سيجورو» في المكسيك. ويمكن بأموال قليلة تحقيق الكثير. لقد حددت دراسة أشرف عليها دين جيميسون، الاقتصادي في مجال الصحة، حوالي مائتي تدَخُّل طبي فعال بما في ذلك التحصينات من الأمراض وإجراءات مهملة مثل الجراحة الأولية. ويمكن أن تكلف هذه التدخلات في مجموعها البلدان الفقيرة دولارا واحدا إضافيا في الأسبوع لكل شخص وتخفض عدد الوفيات المبكرة بأكثر من الربع. وسيذهب نصف هذا المال إلى مراكز الصحة الأولية وليس إلى مستشفيات المدن التي تحصل اليوم على ما يفوق حصتها العادلة من التمويل. لنأخذ أيضا الإنفاق السنوي على العون الصحي الذي يبلغ 37 بليون دولار سنويا. فمنذ عام 2000 ساهم في إنقاذ الملايين من الأمراض المعدية. لكن منظمات الصحة ذات الصبغة العالمية يمكنها تشويه عمل المؤسسات العلاجية المحلية مثلا بوضع برامج مناظرة لها أو سحب عامليها لمشاريع أثيرة (تفضلها هذه المنظمات.) هنالك مقاربة أفضل رصدت في رواندا حيث تحقق البرامج الصحية التي تستهدف مرضا معينا منافع أوسع نطاقا. أحد الأمثلة على ذلك الطريقة التي يمول بها الصندوق لدولي لمكافحة الأيدز والسل والملاريا العاملين في قطاع الصحة المجتمعية. فهؤلاء يتولون علاج المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسب ولكن أيضا الذين يعانون من أمراض أخرى. لقد تساءل الأوروبيون منذ فترة طويلة عن السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تعرض عن الاستفادة من فعالية العناية الصحية الشاملة ومكاسبها الصحية. لكن لايوجد وعي كاف بإمكانيات تطبيقها في البلدان النامية. وطالما لا يجد نصف العالم العلاج الضروري فإن ثمار علم الطب التي حققهاعلى مدى قرون. ستضيع سدى. لكن يمكن تلافي ذلك بفضل الرعاية الصحية للجميع.