أفكار وآراء

العلاقات العمانية - الصينية: المسيرة والمستقبل

21 مايو 2018
21 مايو 2018

د.صلاح أبونار -

فيما بين 14 و16 مايو زار معالي يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية جمهورية الصين الشعبية الصين، وكان لتوقيت الزيارة دلالته الواضحة. فلقد جاء قبل عشرة ايام من ذكرى مرور أربعين عاما على بدء العلاقات الدبلوماسية الثنائية في 25 مايو 1978، حاملا معه دلالة الاحتفاء بالمناسبة والسعي لتطويرها.

وبعد ايام قليلة من العواصف التي اطلقتها واشنطن بتنفيذها لقرار نقل سفارتها في اسرائيل من تل ابيب الى مدينة القدس، ثم قرارها بالانسحاب من الاتفاقية النووية مع ايران. وحمل هذا معه دلالة الرغبة في التشاور وبناء مواقف ايجابية، بين قوتين يشهد لهما العالم بالحكمة، في مواجهة نظام دولي أخذت ضوابطه في التحلل.

احتل تعزيز التعاون الاقتصادي مركز الصدارة، في سعي الطرفين للدفع بعلاقاتهما الثنائية. وتجلى ذلك في تكوين الوفد العماني الذي ضم مع ممثلي الخارجية، ممثلين للبنك المركزي العماني وصندوق الاحتياطي العام. وفي نوعية الاجتماعات التي عقدت، حيث التقى الوفد بنائب رئيس البنك المركزي الصيني، ومسؤولون عن اللجنة الصينية لتنظيم شؤون البنوك، ومسؤولون عن الشركة الصينية لتأمين الصادرات والائتمان، والمدير التنفيذي لبنك التنمية الصيني، ومسؤولون عن بنك سي آي تي آي سي وغرفة التجارة الدولية الصينية. وأخيرا في انتهاء المباحثات بتوقيع مذكرة تفاهم، حول التعاون الثنائي في إطار مبادرة الحزام والطريق .

وتعيدنا الزيارة وذكرى مرور أربعين عاما الى واقع التعاون الاقتصادي بين البلدين وآفاق تطوره وتحدياته. وتحتاج العودة تحقيقا للهدف منها، الى وضع العلاقة بين البلدين في سياقها التاريخي القديم والمعاصر. معرفة ستمكننا من فهم أصول الواقع وتياراته الدفينة، وتمنحنا مؤشرات صحيحة على تطوراته المستقبلية.

ترجع اقدم ظواهر العلاقات العمانية - الصينية الى عهد الهان، الممتد من 206 قبل الميلاد الى 220 بعد الميلاد. ومنذ عام 507 ميلادي انتظمت العلاقات التجارية بين صحار وجوانج زهو، التي استوطنها التجار العمانيون وكان الطريق البحري بينهما يدعى طريق التوابل. وعلى مدى القرون التالية مرت العلاقات بفترات ازدهار تحولت صحار في ظلها الى إحدى اكثر مدن العالم ثراء، كما يخبرنا ابن حوقل والمقدسي. ووصلت التجارة الى أوجها عامي 1431 -1433، عندما وصل اسطول زهينج هي الى ظفار وزار وفد ظفاري بكين ، ومنذ هذا التاريخ أخذت تتدهور لأسباب أهمها صعود قوة البرتغاليين. ويمكننا الكتابة باستفاضة عن هذا التاريخ ، وللدكتور عبد الله السعدي السفير العماني في الصين بحث مفصل بالانجليزية حول الموضوع منشور 2012 في دورية «دراسات شرق أوسطية وإسلامية»، وما يهمنا هنا ليست تفاصيل الوقائع بل دلالاتها التاريخية.

تخبرنا تلك الدلالات ان عمان عبر تاريخها الممتد، امتلكت بتأثير موقعها الاستراتيجي ونشاط اهلها البحري والتجاري ومعارفهم البحرية المتراكمة في بناء السفن والإبحار والجغرافيا، ما يمكن دعوته بالبعد الآسيوي القوي والدائم. بعد تجاري واقتصادي في جوهرة، تحول احيانا الى توسعات امبراطورية، وقد ظلت عمان عربية اسلامية خالصة. الا ان هذا البعد الآسيوي الاقتصادي والتجاري ساهم في تشكيل بعض سمات الثقافة العمانية. فلقد خلق فيها ميل قوي للتطلع صوب الشرق الآسيوي والتواصل المنتظم معه. كما ساهم في إكسابها صفات التسامح والبراجماتية والنسبية واحترام الآخر، والمنفعة المتبادلة، التي تسود المجتمعات التجارية المتقدمة والمنظمة.

انطلقت علاقة عمان الجديدة بالصين عام 1978، في سياق تحولات السياسة الخارجية الصينية بعد رحيل ماو تسي تونح. كانت سنوات 1955 - 1976، سنوات الصراع الصيني السوفييتي والثورة الثقافية، وخلال العشر الاخيرة منها انتهجت السياسة الخارجية توجهين متناقضين. سعت من جهة الى دعم نظم وحركات شديدة التطرف حتى تبدو على يسار موسكو، لكنها عملت من جهة اخرى على إقامة علاقات قوية مع نظم حليفة للغرب انسياقا وراء عدائها لموسكو. ومع تولي دينج زياو بينج للسلطة انتهجت نهجا متسقا وعقلانيا. سياسة اقل عقائدية، وذات نزعة واقعية، ولا تسعى للتدخل الخارجي، وتضفي شرعية على التنوع. خلف هذا التحول سنجد الرغبة في الاندماج في النظام العالمي، والمساهمة في خلق نظام اكثر تعاونية واحتراما للمصالح المتبادلة، وانتهاج سياسات تساعد على تحديث الصين ونهضة اقتصادها.

وفي الفترة نفسها تقريبا تبلورت الرؤية الحاكمة للسياسة الخارجية العمانية عبر سمات مماثلة. أنهت عمان في النصف الاول من السبعينات مرحلتها الانتقالية، التي نجحت فيها في ترسيخ استقرار البلاد، لتنطلق في نصفها الثاني في مرحلة جديدة. فأطلقت عام 1976 خطتها الخمسية التنموية الاولى، وشرعت في بناء مؤسسات الدولة الحديثة، وبلورة ملامح سياستها الخارجية المتميزة . وفي معرض تحليله لتلك السياسة، اورد جوزيف كيششيان في كتابه «عمان والعالم» العناصر التالية: البراجماتية، وعدم المبالغة في افتراض وجود نوايا سيئة للأمم الاخرى، وشجاعة المبادرة في وجه المعارضات التقليدية ، والإيمان ان عدو الأمس يمكن ان يتحول الى صديق اليوم، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، واحترام القانون الدولي، والتوفيق بين المصالح.

ثم جاء تصاعد النمو الاقتصادي الصيني، ليمنح العلاقات بين البلدين قوتها المحركة الاساسية. فيما بين 1976 و2005 حققت الصين معدل نمو سنوي 9%، وتبعا لذلك شهد استهلاك الصين للنفط والغاز ارتفاعا مطردا، فارتفع من 2.3 مليون برميل يوميا عام 1990 الى 6.4 مليون عام 2004، ومن المتوقع وصوله عام 2025 الى 13.6 مليونا. وقاد ذلك لتراجع الاكتفاء الذاتي من النفط والغاز، وبدأت تستوردهما بكثافه من عام 1988. وفي 1983 صدرت عمان للصين اول شحنة من نفطها، وأول شحنة غاز سائل عام 1997. وتصاعد الطلب النفطي الصيني، حتى أصبحت الصين منذ 2003 اكبر مستورد للنفط العماني.

وقاد هذا الصعود الى الدخول في شبكة تبادل تجاري كثيفة وسريعه التطور. في عام 1976 لم تتجاوز قيمة الصادرات الصينية لعمان 5.85 مليون دولار، وقفزت عام 2013 الى 2.06 بليون دولار. وفي عام 1993 كانت قيمة الصادرات العمانية للصين 510 ملايين دولار، وصلت عام 1997 الى 1.42 بليون دولار، ثم قفزت عام 2004 الى 4.28 بليون دولار .

دخلت العلاقات الاقتصادية العمانية - الصينية مرحله جديدة في الثلث الثاني من العقد الجاري. في عام 2016 اطلقت عمان خطتها الخمسية التاسعة. الخطة الاخيرة لرؤية عمان 2020، والتي استهدفت الدفع بسياسات التنويع الاقتصادي دفعات جذرية. وشرعت في اعداد استراتيجيتها التنموية الجديدة «عمان 2040»، وعلى رأس جدول أهدافها مواصلة التنويع الاقتصادي . وعلى الجانب الآخر اطلقت الصين عام 2013 مبادرة الحزام والطريق.

وتسعى هذه المبادرة الى تدعيم موقع الصين في الاقتصاد العالمي، من خلال احياء طريقي الحرير البري والبحري، عبر اشكال متعددة. تطوير وسائل المواصلات عبر مد الطرق البرية السريعة والسكك الحديدية العابرة للقارات وانشاء الموانئ ، وبناء التسهيلات اللوجستية المرافقة. وإنشاء مناطق صناعية متكاملة على امتداد الطريق، تصبح مقرا لصناعات جديدة وتجميع صناعات أخرى، ومركزا للتجارة الدولية. وتطوير مصادر الإمداد بالطاقة، عبر مد انابيب النفط والغاز وبناء معامل التكرير والإسالة. ويصل عدد البلدان التي تم تغطيها المبادرة 65 بلدا، تتعامل مع 953 مليار دولار من قيمه التجارة الصينية، ويعيش فيها 4.4 بليون نسمة .

توفر عمان بموقعها الاستراتيجي امكانيات تعاون عالية مع مبادرة الحزام والطريق، فهي دولة منتجة للنفط والغاز، والمحطة البحرية الأولى لطريق الحرير البحري القادم من آسيا، وتشكل بسواحلها البحرية مركزا تجاريا يربط بين آسيا وإفريقيا والشرق الاوسط والبحر المتوسط ومنه الى اوروبا. وفي كل الاحوال تبدو الامكانيات التي تقدمها للمبادرة، احياء معاصرا لموقعها ودورها التجاري التاريخي القديم.

وفي سياق التعاون الذي اطلقته المبادرة مع عمان تحتل الدقم موقع الصدارة. الا ان بدايات المشروع العمانية ترجع الى رؤية عمان 2020، أي تاريخ اسبق زمنيا من انطلاق مبادرة الحزام والطريق. وفي البداية تولاه كونسورتيوم بلجيكي، وشرعت الحكومة العمانية في تطوير البني التحتية للمشروع.

الا انه لم يتقدم بالايقاع المتوقع حتى جاءت المبادرة لتمنحه رافعة دولية قوية. تبلغ قيمة الاستثمار الصيني في الدقم 10.7 بليون دولار، يتولاها كونسورتيوم مكون من ست شركات صينية، وتوجه لإنشاء ميناء ومعمل لتكرير النفط تجاورت سلسلة من الصناعات البتروكيماوية، ومنطقة صناعية وأخرى سياحية.

بيد ان آفاق التعاون الثنائي أوسع كثيرا من مشروع الدقم. ويرصد المراقبون إمكانيات عديدة. منها توظيف التكنولوجيا الصينية في مشروعات الطاقة الشمسية، ومنها عضوية عمان في بنك آسيا الموفرة لإمكانية ان تصبح عمان مركزا ماليا في المنطقة. ومنها صلاحية عمان للتحول الى مركز لتجميع وتوزيع صناعات عديدة، ومنها صلاحية موقعها للتحول الى مركز لتطوير شبكة الاتصالات السيبرانية الممتدة من الشرق عبر المحيط الهندي الى إفريقيا.