أفكار وآراء

أبعاد جيو- سياسية جديدة للصراع العربي - الإسرائيلي

19 مايو 2018
19 مايو 2018

بشير عبد الفتاح -

,, عدم تسوية الأزمات والصراعات التي تفتك بدول الإقليم ،وفي القلب منها عدم إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ،ينذر بتقويض مساعي الدول مجتمعة لتعظيم استفادتها من ثرواتها الهائلة ,, برأسها تطل قضية أمن الطاقة العالمي،ولما كانت منطقة الشرق الأوسط تشكل بؤرة اقتصادية حيوية تموج بمصالح كبريات الدول والشركات العالمية،فإن الأمن الاقتصادي لتلك الدول يبقى مهددا بسبب الصراع العربي الإسرائيلي وعدم إقامة الدولة الفلسطينية.

فلقد اقتضت خصوصية الصراع العربي الإسرائيلي والأهمية الجيوسياسية للمنطقة ،أن يتسع مجال تأثير التداعيات السلبية الخطيرة للمواجهات العسكرية الدامية والمتوالية بين إسرائيل والعرب لتطال العالم قاطبة. فلطالما تأثرت أسواق النفط الدولية سلبا وبالتبعية الاقتصاد العالمي برمته ،بجريرة تعطل الملاحة في قناة السويس أو تقلص وتوقف انتقال النفط من دول الخليج العربية إلى العالم الخارجي بسبب الحروب أو الانحياز الغربي لإسرائيل أثناء الحرب،على غرار ما حدث في حرب أكتوبر من العام 1973،حينما قررت الدول العربية المصدرة للنفط في 16 أكتوبر1973 تقليص تصدير النفط إلى ست دول غربية تدعم إسرائيل خلال الحرب، خصوصا الولايات المتحدة وهولندا، لاسيما بعد أن قامت الأخيرة بتزويد إسرائيل بالأسلحة والسماح للأمريكيين باستخدام المطارات الهولندية لإمداد ودعم إسرائيل. وبالتوازي،اتفق أعضاء أوبك على استخدام نفوذهم لجهة آلية ضبط أسعار النفط في أنحاء العالم من أجل رفع تلك الأسعار، خصوصا بعدما فشلت المفاوضات مع شركات النفط الكبرى التي أطلق عليها « الأخوات السبع « في وقت سابق من ذات الشهر. ونتيجة لذلك، تضاعفت أسعار النفط أربع مرات بحلول عام 1974 بعدما قفزت أسعارالنفط إلى نحو 12 دولارا للبرميل الواحد ، الأمر الذي خلف تداعيات سلبية للغاية على الاقتصاد الأمريكي حينئذ ،إذ ارتفع سعر التجزئة لجالون البنزين داخل الولايات المتحدة من متوسط 38.5 سنتا في مايو 1973 إلى 55.1 سنتا في يونيو 1974، فيما فقدت بورصة نيويورك للأوراق المالية 97 مليار دولار من قيمة أسهمها خلال ستة أسابيع فقط. كما تعرض النظام المالي العالمي لضغوط هائلة جراء انهيار اتفاق «بريتون وودز» على النحو الذي أدى إلى استمرار الركود لفترات طويلة ، علاوة على ارتفاع معدلات التضخم حتى أوائل الثمانينات من القرن الماضي، بينما استمر ارتفاع أسعار النفط حتى عام 1986.

ورغم أن حظر تصدير النفط إلى الدول الداعمة لإسرائيل لم يدم طويلا ، إذ تم رفعه بعد عدة أشهر فقط ، وتحديدا في مارس من عام 1974 إثر مفاوضات شاقة جرت خلال مؤتمر قمة النفط التي استضافتها العاصمة الأمريكية واشنطن، إلا أن الآثار المترتبة على أزمة الطاقة تلك بقيت طوال سني السبعينات من القرن الماضي ، لاسيما وأن أسعار الطاقة لم تتوقف عن الصعود، بالتزامن مع ضعف الموقف التنافسي للدولار في الأسواق العالمية .كذلك، كانت أزمة النفط عام 1973 سببا رئيسا في تحول اقتصاد اليابان بعيدا عن النفط والصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة ، و ضخ استثمارات ضخمة في مجال صناعة الإلكترونيات . بدورها ، قررت البنوك المركزية للدول الغربية خفضا حادا لأسعار الفائدة لتشجيع النمو، ورغم أن هذه كانت هي الوصفة التقليدية للاقتصاد الكلي في ذلك الوقت، إلا أنها أدت إلى الركود على نحو فاجأ الاقتصاديين و محافظي البنوك المركزية، فيما بقيت آثار أزمة النفط باقية وملموسة على المدى الطويل.

بموازاة ذلك،أجبرت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن حظر النفط العربي للدول الغربية الداعمة لإسرائيل أثناء الحرب ، بعض دول أوروبا الغربية ، التي تستورد 80 ٪ من احتياجاتها النفطية من العرب، وكذا اليابان، التي تستورد أكثر من 90 ٪ ،على أن تتحول من تأييد إسرائيل إلى دعم السياسات العربية، وهو التحول الذي أفضى إلى زيادة التوترات والاضطرابات داخل منظومة التحالف الغربي، خصوصا مع إصرار الولايات المتحدة، التي كانت تستورد 12 ٪ فقط من احتياجاتها النفطية من دول الشرق الأوسط، على مواصلة الدعم غير المحدود لإسرائيل ، فيما كشفت وثائق بريطانية مؤخرا عن أن الولايات المتحدة فكرت في استخدام القوة للاستيلاء على بعض حقول النفط في الشرق الأوسط أثناء حرب أكتوبر1973 عندما حظرت الدول العربية صادرات النفط إليها. وبعد مرور عام على رفع الحظر النفطي، قدمت كتلة دول عدم الانحياز في الأمم المتحدة مشروع قرار يطالب بإرساء دعائم «النظام الاقتصادي الدولي الجديد» الذي ينظم الموارد، والتجارة، والأسواق ويضمن وجود توزيع أكثر إنصافا، للسكان المحليين وتنمية دول الجنوب ودعمها من قبل دول الشمال ،التي تستغل ثرواتها وإمكاناتها.

ومن جهة أخرى، وعلى رغم أن حوض شرق البحر المتوسط، الذي يضم مصر واليونان وقبرص وتركيا ولبنان وسوريا وإسرائيل وفلسطين، يعوم فوق احتياطات استراتيجية ضخمة من مصادر الطاقة الهيدروكربونية والنفطية، تقارب الـ 122 تريليون قدم مكعب من الغاز، و1.7 مليار برميل من النفط ، جاهزة للضخ والتصدير عبر مياه المتوسط ، وفقاً لتقرير هيئة المسح الجيولوجي الأمريكي الصادر في 2010 ، إلا أن عدم تسوية الأزمات والصراعات التي تفتك بدول الإقليم منذ عقود، وفى القلب منها الصراع العربي الإسرائيلي وسببه المباشر والرئيس المتمثل في عدم إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ، ينذر بتقويض مساعي تلك الدول مجتمعة الرامية لتعظيم استفادتها من تلك الثروات الهائلة.

فلقد أضافت اكتشافات غاز شرق المتوسط بعداً جيو سياسيا جديداً للصراع العربي - الإسرائيلي ، لم يكن موجوداً سابقاً ، وهو المتعلق بأمن الطاقة ، إذ ستزداد وتيرة النزاع بين تل أبيب وعدد من الدول العربية ، خصوصاً تلك المصدرة للغاز الطبيعي، وبخاصة مع إصرار إسرائيل على الاستحواذ على احتياطيات الغاز بمياه شرق المتوسط وتصديره مباشرة إلى الأسواق الأوروبية. و تواجه مشاريع الاستفادة من ثروات شرق المتوسط تحديات سياسية وقانونية وأمنية عديدة جراء استمرار الصراع العربي الإسرائيلي وعدم إقامة الدولة الفلسطينية. حيث لم تتوصل إسرائيل لاتفاقات لترسيم الحدود البحرية مع دول الجوار بشرق المتوسط بسبب تلك الخلافات والصراعات . وإلى جانب الصراع الإسرائيلي اللبناني بشأن حقول الغاز المكتشفة بالقرب من المياه الإقليمية للطرفين ، هناك الخلاف الفلسطيني الإسرائيلي حول حقول الغاز بشرق المتوسط قبالة شواطئ غزة.

لقد كانت إسرائيل الأكثر إدراكا لأهمية أمن الطاقة ، لا سيما بعد ان أدى ما سمي بـ»الربيع العربي»، إلى وقف إمدادات الغاز المصري لها، ما دفعها للبحث عن بدائل لمواجهة أي أخطار مستقبلية ، ومن ثم كانت الأكثر تبكيرا في التهام مخزون الإقليم من النفط والغاز على نحو ما تجلى في زيادة حجم الاستثمارات وعدد الشركات الإسرائيلية العاملة بمجال التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط ، كشركات ديليك جروب، وإسرامكو وراشيو أويل ، بتنسيق تقني وتكنولوجي مع الشركات الأمريكية الكبرى، كنوبل إنرجي، وإكسون موبيل وغيرهما. الأمر الذي جعل منها قاسما مشتركا في صراعات وخلافات دول حوض شرق المتوسط ؛ الذي تشعبت صراعاتها ونزاعاتها مع مختلف أطرافه بعد تفجر الخلافات بشأن تقاسم ثروات الإقليم. فبعدما بدأت إنتاج الغاز بحقل «ليفاثيان» في عام 2010، الذي يحتوي على فائض يصل إلى 22 تريليون قدم مكعبة ،وحقل «تمار» الذي بدأ إنتاجه عام 2009 بفائض يقدر بـ10 تريليونات قدم مكعبة، سعت إسرائيل للتباحث بشأن توريد الغاز إلى أوروبا عبر تركيا، بيد أن الصفقة تعطلت جراء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة. وفى مسعى منها لاحتكار ثروات غاز شرق المتوسط، عملت إسرائيل للحيلولة دون ترسيم مصر لحدودها البحرية عبر ممارسة الضغوط على قبرص لمنعها من ترسيم الحدود البحرية مع مصر، مستغلة نص اتفاقية البحار على أنه لا يجوز لدولة موقعة مع دولة أخرى على ترسيم حدود، أن توقع مع دولة ثالثة دون الرجوع إلى الدولة التي وقعت معها أولاً (إسرائيل). كذلك، تسعى إسرائيل لتعويق استفادة الفلسطينيين من غاز شرق المتوسط ، سواء من خلال تحويل إنتاج حقل «غزة مارين» في المياه الفلسطينية ، ليصل الغاز أولاً إلى مدينة عسقلان ثم إلى غزة، بحيث تستطيع إسرائيل أن تستقطع الكمية التي تطلبها وبالأسعار التي تحددها، أو عبر وقف مرور الغاز أو السماح به بحسب أولوياتها السياسية المرحلية ، الأمر الذي أدى إلى أن تجمد الشركة المطورة للحقل الفلسطيني «بي جي» البريطانية وشركاؤها، «صندوق الاستثمار الفلسطيني»و»شركة اتحاد المقاولين»السي سي سي، العمل في الحقل الذي اكتشف عام 2000 على بعد نحو 25 كيلومتراً عن ساحل غزة وتقدر احتياطاته بنحو 64 تريليون قدم مكعبة من الغاز. وكان من المزمع أن يوفر غاز هذا الحقل الوقود لمحطة كهرباء غزة، بدلاً من استيراده من إسرائيل. ولما كانت الحدود البحرية بين إسرائيل وكل من فلسطين ولبنان غير مرسمة أو متفق عليها ، بينما تتسم بالتداخل الشديد ، ففي حقل «تامار» مثلاً، يبعد التركيب الرئيس نحو 35 ميلاً جنوب المياه اللبنانية، بينما يمتد تركيبان صغيران داخل المياه اللبنانية. كما أن خرائط بعض الحقول في المياه الجنوبية تدل على إمكان إن تمتد إلى المياه الفلسطينية، فإن احتمالات تجدد المواجهات والصدامات العسكرية ليست مستبعدة ،خصوصا مع تنامي فرص اكتشافات جديدة وتصاعد حدة التهديد المتبادل بين إسرائيل ولبنان بشكل لافت هذه الأيام.

وتوخيا منها لمنع إسرائيل من مواصلة سرقة ثروات شرق المتوسط ، تمسكت مصر بحقها في ترسيم حدودها مع قبرص اعتماداً على البند 131 من القانون الدولي البحري الذي يمنح مصر حق إعادة رسم حدودها البحرية، مع مخاطبة الجمعية الجيولوجية الأمريكية للحصول على الخرائط الرئيسية لحقول الغاز داخل الحدود البحرية المصرية، كما عملت وزارة البترول على إقناع شركات النفط الأجنبية ببدء التنقيب فى المياه الإقليمية المصرية، وذلك قبل توسع إسرائيل في استثمار حقل «ليفاثيان»، الذي اكتشفته سنة 2000 وحققت أرباحا من إنتاجه تصل إلى 240 مليار دولار، بينما تؤكد الخرائط وقوعه داخل المنطقة الاقتصادية المصرية الخالصة التي تمتد الى مائتي كيلومتر وفقا لاتفاقية البحار عام 1982، حيث يبعد الحقل 188 كيلومترا شمال دمياط، بينما يبعد 232 كيلومترا عن حيفا.

مع تصاعد موجة العسكرة التي باتت تلقى بظلالها الكئيبة على التفاعلات الإقليمية والدولية، وتفاقم الاحتمالات بأن تتمخض ثروات شرق المتوسط عن تفجر صراعات جديدة بمنطقة مضطربة سياسياً وقلقة عسكرياً ، خصوصا مع تعاظم التوقعات بشأن اكتشافات غازية ونفطية جديدة بالقرب من الشواطئ السورية واللبنانية والفلسطينية ، تبرز أهمية المقاربة المصرية لتحويل ثروات شرق المتوسط من مسوغ وبؤرة لإعادة إنتاج الصراع إلى ساحة للتعاون والحوار، بوصفها ركيزة مهمة لتأسيس نظام أمني واقتصادي إقليمي ، يرسخ لقواعد وآليات ناجزة تكفل حلحلة الأزمات وتسوية الصراعات، كما تتيح تقاسم الثروات ضمن إطار سلمي تشاركي . وترى مصر أن البداية المثلى لذلك التوجه الناجز ، إنما تكمن في تسوية القضية الفلسطينية ، التي تعد أصل الصراعات في المنطقة ، عبر إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية .