روضة الصائم

لقاء متجدد :الفطرة السليمة

17 مايو 2018
17 مايو 2018

الشيخ أحمد بن حمد الخليلي -

إن الفطرة السليمة هادية إلى الله، فالعاقل يفتح عينيه على وجوده، ووجود كل مخلوق في هذا الكون الفسيح، فيرى بعين بصيرته يد الله تعالى تصرف كل شيء في هذا الكون، نشرا وطيا، رفعا وخفضا، عطاء ومنعا، وجاءت شرائع الله تعالى وفق دلائل الفطرة، مصدقة لها فيما تشهد به، ناهيك عما في القرآن الكريم – كتاب الله تعالى الذي حفظه بعينه، ووقاه كل تحريف وتبديل– فكم تجد في تضاعيف آياته وإشراق بيناته ما يرد العقول الزائغة إلى الفطرة السوية، فيبدد عنها أغشية الضلال التي حجبتها عن إدراك الحقيقة عندما مالت عن فطرتها، فكم من آية في كتاب الله تؤكد أن كل ما يصيب الإنسان من صحة أو سقم، أو غنى أو فقر، أو راحة أو تعب، أو سعد أو نحس، أو إقبال أو إدبار، وكل ما يعتريه من موت أو حياة، أو قوة أو ضعف، فإنما ذلك كله مرده إلى أمر الله، فهو الذي يهب من يشاء، ويحرم من يشاء، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ولم يكن ما قدره الله له من خير أن يخطئه، أو كتبه عليه من شر أن يجنبه، فالخير والشر والنفع والضر كل ذلك بقضاء الله وقدره، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وقد وجه الله عباده إلى اعتقاد وإعلان أن كل مصيبة تلم بهم إنما هي بحسب ما كتبه الله تعالى، كما في قوله: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وإن كل عطاء أو حرمان إنما هو بأمر الله تعالى، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وجاءت سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤكدة ما توحيه الفطر الزكية، وتدل عليه العقول السليمة، وتصدقه نصوص الكتاب العزيز، فقد وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- خطابه التربوي العظيم إلى ابن عمه حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، عندما كان غلاما يافعا، فقال له: «يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».وجاء بلفظ: «يا غلام، أو يا غليم، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟» فقلت: بلى. فقال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت، فاسأل الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا».وهو يؤكد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصا على أن يربي هذه الأمة وفق هذا السَّنَن الذي ينسجم مع الفطرة، ويلتئم مع هداية القرآن، وبهذا كان يطهر عقولهم من كل لوثة من لوثات العقائد الجاهلية التي رسخت في أتباعها أن الله سبحانه مُزاحَم في خلقه وأمره من قبل شركاء يزعمونهم، وكم جاء القرآن الكريم بقوارع نذره، وصوادع حججه وبراهينه، ودوامغ آياته البينات ليخلص الإنسانية التعيسة الحائرة من هذه الأوهام التي حالت بينها وبين إصاخة سمعها إلى نداء الفطرة الذي يجلجل في جنبات الوجود، وغشت أبصارها بأغشية أن تستهدي بأنوار العقل الكاشفة لهذه الحقائق من وراء حجب الأوهام، فقد أقام القرآن على الذين زاغت عقولهم بينات لا تدفع – من أنفسهم، ومن كل ما يزخر به الوجود من عجائب خلق الله – على أن كل شيء بيد الله، وما كان لأحد من خلق الله تعالى أن يتطاول عليه سبحانه، فيرد له قضاء، أو يبدل له سنة، أو يدفع له حكما.