الملف السياسي

حراك محدود ورمزي في مواجهة أزمة محتدمة

14 مايو 2018
14 مايو 2018

د.صلاح أبونار -

فيما بين 30 أبريل و4 مايو انعقد المجلس الوطني الفلسطيني. وكانت كل مؤشرات السياقات العامة والخاصة للمشكلة الفلسطينية، تشير الى عمق الأزمة وجسامة التحديات التي تواجهها. ثم جاءت كل المؤشرات داخل المؤتمر نفسه، لتشير إلى عمق الأزمة الذاتية التي تواجهها القوى الفلسطينية.

فالمجلس الوطني المعتبر نظريا السلطة الأساسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، المقرر قانونيا انعقاده كل عام على مدار دورته المكونة من ثلاثة أعوام، كان قد مر عليه 22 عاما دونما انعقاد. وفي المجلس اتخذ المجتمعون قرارا لن نخطئ دلالته، إذ تقرر انتخاب 108 أعضاء جدد لملء المقاعد الشاغرة نتيجة وفاة اصحابها على مر تلك السنين. وخلف هذا الإخفاق المؤسسي سنجد إخفاقا مؤسسيا آخر، فالمدة الدستورية لولاية الرئيس محمود عباس منتهيه منذ يناير 2009، وولاية المجلس التشريعي الفلسطيني منتهيه منذ يناير 2010، ولم تجر انتخابات للتجديد الدستوري لأي منهما. ورغم وصول عدد الحضور الى 605 أعضاء جرى التصويت وقوفا وبرفع الأيدي. وعندما نراجع قراراته ونفحص ما خلف التباينات اللغوية والاستطرادات، سنجدها نفس قرارات اجتماع 28 يناير 2018 للمجلس المركزي الفلسطيني.

انعقد المجلس الوطني لمواجهة ازمة تعددت وتشابكت ابعادها. قرار نقل السفارة الامريكية للقدس، الذي لحقة قرار تنفيذ النقل في 14مايو ، اي امس . والتشييع الامريكي - الاسرائيلي لحل الدولتين الى قبرة، وطرح «صفقة القرن» الأمريكية التي لا تختلف عن مشاريع اسرائيل اليمينية القديمة ، سوى في التبني الامريكي الصريح لها والسعي النشط لحشد التأييد الاقليمي لها.

انطلق الاعداد للمؤتمر في سياق متناقض، يجمع بين العناصر الايجابية والسلبية. وسنجد العناصر الايجابية في الرفض الدولي العام ومتعدد المستويات لقرار القدس، وتمسك القوى الدولية بحل الدولتين، وتوسع حركة المقاطعة الدولية لاسرائيل، والاعتراضات الشعبية على قرار القدس، وانطلاق حراك يوم الأرض الشعبي - مسيرة العودة - من غزة.

ولكن العناصر السلبية كانت أكثر، وسنركز هنا على السياق الفلسطيني نفسة.من جهة اولى هناك تآكل شرعية السلطة الوطنية وقواها السياسية. في استطلاع للرأي العام الفلسطيني في منتصف مارس الماضي، رأى 78%وجود فساد في السلطة الوطنية، وطالب 68% باستقالة عباس، واعتقد ثلثا العينة ان الاجهزة الرسمية تتنصت علي مكالماتهم . وأظهر 26% فقط رضاه عن حكومة الوفاق، وحمل 45% السلطة مسؤولية هذا الفشل. وعندما سئلت العينة من ستنتخب اذا اجريت انتخابات، فضل 30% حماس، ولم يتعد مؤيدو فتح 36% .

ومن جهة ثانية هناك التفاوت الواضح في مستوى حراك يوم الارض السياسي- مسيرة العودة - فهو حتى الآن يتركز في غزة، ويظهر هامشيا خافتا في الضفة الغربية. وهكذا يبدو ان الضفة وغزة قد انقسما شعبيا بموازاة انقسامهم السياسي والمؤسسي. تباين في مساحة منه طبيعي ، وناتج عن تفاعل مزيج من اختلاف الثقافات السياسية المسيطرة والهياكل السياسية المغذية لها، والبني والأزمات الاجتماعية والسياسية، والخسائر الواسعه التي أسفرت عنها الانتفاضة الثانية، وظهور جيل جديد ينظر باسترابة الى المؤسسات الفلسطينية وأساليب النضال الوطني الفلسطيني. ولكنه في مساحة اخرى تباين مخطط ، فلقد اطلقت حماس حراكها مبكرا لأسباب عديدة. وقررت فتح تأجيله حتى لحظة نقل السفارة، ولأن فتح داخل السلطة الوطنية فمن المرجح تخطيطها لإطلاق حراك محسوب. ونتصور ان تناقضات نمط الحراك الشعبي في راهنيته واحتمالاته، شكل عامل تعميق للانقسام الفلسطيني الذي حدد مصير المجلس الوطني .

ومن جهة ثالثة هناك الفشل السياسي في بناء اجماع فلسطيني جديد. تجسد الفشل في رفض حماس والجهاد والجبهة الشعبية حضور اجتماعات المجلس الوطني ، لاصرارهم على عقد ما دعوة بالمجلس الوطني التوحيدي. ولايقصدون بذلك مجلس تحضرة كل القوى الفلسطينية. بل مجلس وطني ينتهي الى إصلاحات هيكلية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وإطلاق انتخابات جديدة، وإجماع وطني جديد على استراتيجية جديدة للقضية الفلسطينية. هدف يجب ان تمهد له مفاوضات، ويفرض ذلك تأجيل انعقاد المجلس الوطني . ولن نجد العوامل الاساسية التي أعاقت الوصول الى اتفاق من هذا النمط، في عناصر الرؤية السياسية الجديدة، فلقد اسقط فشل اوسلو أوهاما كثيرة وقرب الخطوط النائية. بل سنجدها داخل حماس وفتح. فلا يزال امام حماس الكثير من خطوات التكيف الايديولوجي، حتى تصبح مقبولة دوليا واسرائيليا كطرف مفاوض ومسؤول ، ودون هذا القبول لا امل في التقدم. وفيما يتعلق بفتح اولدت سنوات السلطة الطويلة، مصالح اجتماعية تكبح محاولات التغيير ، وبالتالي تدفع لرفض آليات التصالح والشراكة والانتخابات او النفور منها. هذه المصالح ترتبط اساسا بدائرتين؛ دائرة المهيمنين على مؤسسات السلطة الفلسطينية ، ودائرة الشرائح الوسطي الفلسطينية الجديدة في الضفة الغربية من المهنيين، هذه الفئات الوسطى المؤثرة، تشكل القاعدة الاجتماعية المولدة لكتلة من عناصر الدائرة الأولى وترتبط بعلاقات انتفاع قوية معها، وتجد في الوضع الراهن مجالا لازدهارها .

وكان من شأن عناصر السياق الايجابية توليد روح الوحدة والتحدي، القادرة على خلق انماط جديدة من العلاقات التنظيمية والتعبوية، تدفع بسياسات جديدة لتخطي أزمة السياسات القديمة. إلا أن تأثير العناصر السلبية كان اقوى بمراحل، وكانت النتيجة ان انجاز المجلس الوطني الفعلي والحقيقي انحصر في قرارات الانتخابات الداخلية للمنظمة، التي اتخذت على قاعدة الانقسام السياسي الراهن. اما قرارات المواجهة السياسية فلم تفعل اكثر من تكرار نفس قرارات المجلس المركزي الفلسطيني في يناير 2018، واقرب ما تكون الى الأهداف العامة المجردة منها لإطلاق السياسات العملية وتأسيس التحالفات الدافعة والمساندة.

اقر الاجتماع انتخاب 108 أعضاء للمجلس الوطني لشغل مقاعد اعضاء توفوا، وانتخب لجنة تنفيذية جديدة للمنظمة من 15 عضوا، ومجلسا مركزيا جديدا من 122 عضوا، واعاد انتخاب محمود عباس رئيسا للجنة التنفيذية. ويحتاج فهم مغزى الانتخابات السياسي، الى معرفة وثيقة بما يجري في دهاليز المنظمة. ولكن يمكننا طرح عدة اسباب افتراضية لها، تجمع بين اعادة بناء التوازنات داخل النخب الفلسطينية، والدوران الضروري للنخبة عبر مؤسساتها، واجراءات قطع الطريق امام تسلل انصار دحلان الى المواقع المؤثرة، وضمان مسارات مؤسسية محددة في لحظة خلافة عباس المحتملة .

ماذا بشأن قرارات المواجهة السياسية؟ سندع قرارات الادانة والرفض للمواقف الأمريكية - الإسرائيلية، ونبحث عن البدائل السياسية للمسارات التي انتهت بالفشل. اعتبرت القرارات قرار القدس وتنصل أمريكا من حل الدولتين، تخليا أمريكيا عن دور الوسيط السياسي، وطالبت بمسار تفاوضي دولي جديد برعاية الأمم المتحدة ومشاركة دول مجلس الأمن الخمسة الكبار. ومشكلة هذا المسار البديل هي طرحه مجردا من أي آليات حركية، علما انه طرح في اجتماع المجلس المركزي في يناير الماضي ، وكانت هناك فرصة لبلورته عبر مبادرة فلسطينية تعلن في سياق مؤتمر القمة العربي، ولكن الفرصة أهدرت. وفي مواجهة التنصل الاسرائيلي من التزامات اوسلو، طرحت القرارات الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي الى مرحلة الدولة التي تناضل من اجل استقلالها، وكلفت اللجنة التنفيذية بتعليق الاعتراف بإسرائيل، وأكدت وجوب تنفيذ قرار المجلس المركزي بوقف التنسيق الامني مع اسرائيل. وبالتوازي مع ذلك أعادت التشديد علي مسارات الحركة الدولية القديمة، واهمها النضال عبر وسائط التنظيم الدولي، وحركة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل. وعندما نتأمل تلك السياسات العملية، سنلاحظ ان بعضها مثل وقف التنسيق الأمني غير قابل للتنفيذ في ظل استمرار ترتيبات اوسلو السياسية، وبعضها مثل المقاطعة فعال لكنه يحتاج لمدى زمني للتراكم والتأثير، وبعضها مثل الوسائط الدولية وصل لمرحلة التشبع السياسي.

ولا يعني ما سبق ان تلك السياسات بلا جدوى، بل يعني عجزها عن تلبيىة احتياجات المواجهة الفعالة والاستراتيجية للموقف السياسي الراهن والأزمة التاريخية التي خلقته.

وتلك المواجهة فيما نعتقد تتشكل عبر تفاعل عدة مسارات، متفاوته في ايقاع تقدمها. مسار بناء توافق استراتيجي جديد في الرؤية السياسية، يتخطى مفهوم المصالحة السياسية. ومسار اطلاق عملية اعادة بناء المؤسسات الفلسطينية، على قاعدة جديدة تتخطى ميراث منظمة التحرير، ومسار اطلاق المقاومة الشعبية السلمية عبر عدة اشكال لاتنحصر في مفهوم الانتفاضة الواسعة والمؤقتة.

أهدر الاجتماع امكانيات اطلاق المسارين الأول والثاني، وتقع مسؤولية الفشل على عاتق كل القوى الفلسطينية،ولكن قيادة المنظمة بتراثها التاريخي، وباتساع مواردها البشرية ، وبسيطرتها المؤسسية على المجال الفلسطيني، تتحمل المسؤولية الأكبر. أما المسار الثالث فلقد طرحته قرارات المؤتمر، لكن عبر روح الاحتفاء والحث السياسي، وليس عبر روح النداء الحركي، وبعيدا عن موقع الصدارة الممنوح للمسارات الدولية.