أفكار وآراء

اليونسكو وملامح نظام عالمي جديد

13 مايو 2018
13 مايو 2018

أ.د. حسني نصر -

كنا قد كتبنا في مقال الأسبوع الماضي عن احتفالية جمعية الصحفيين العمانية بهذا اليوم العالمي، وأشرنا إلى إعلان أكرا 2018، الذي صدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) الأسبوع الماضي، نسبة إلى العاصمة الغانية التي احتفلت فيها المنظمة الدولية باليوم العالمي لحرية الصحافة بحضور الرئيس الغاني أكوفو أدو، ونحو تسعمائة صحفي وباحث من جميع أنحاء العالم. وقد ركزنا في المقال السابق علي التوصيات التي تضمنها الإعلان والخاصة بالصحفيين والمؤسسات الإعلامية لحماية حرية التعبير والصحافة. اليوم أجد من المناسب العودة إلى الإعلان ومراجعة ما ورد به من توصيات لحكومات الدول الأعضاء في اليونسكو والتي بلغت خمسا وعشرين توصية، تمثل في تقديري ثورة أممية جديدة يمكن أن تعيد تشكيل النظام الإعلامي العالمي، وإن كانت تتخفى خلف الدعوة إلى تعزيز حرية الصحافة.

الجديد في المسؤوليات الجديدة التي أسندتها اليونسكو لحكومات الدول يتعلق بوضع الأطر القانونية لتنظيم قطاع الإعلام وتنفيذها، وهو مطلب كانت اليونسكو تتحرج في السابق من رفعه خشية الانتقادات التي قد تطالها من حكومات الدول الغربية والمنظمات الدولية التي ترى ترك مهمة تنظيم هذا القطاع لوسائل الإعلام نفسها وجمعيات ونقابات الإعلاميين. وليس بعيدا تاريخيا ما حدث في منتصف سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي عندما تبنت اليونسكو دعوة دول العالم الثالث لإنشاء نظام إعلامي عالمي جديد وعادل، وما جرته هذه الدعوة على المنظمة من غضب من الدول الغربية، نتج عنه انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا منها لسنوات طويلة. اليوم تعود اليونسكو إلى التجاوب مع مطالب الدول النامية التي ترى أن تنظيم الإعلام مهمة يجب أن تتولاها الحكومات، وأن التنظيم الذاتي الذي تقوم به الوسائل نفسها والجمعيات والنقابات لا يمكن أن يغني عن التنظيم الحكومي القانوني الذي يحقق المساواة للجميع أمام القانون. ولعل ما يؤكد هذا التوجه الأممي الجديد ما ورد في التوصية الأولى الموجهة للدول والتي تدعوها إلى إصدار وتعزيز وتنفيذ إطار تشريعي لتنظيم العمل الإعلامي، يكون متوافقا مع المعايير الدولية، ويحترم حرية التعبير والحق في الخصوصية، كما يعزز قطاع وسائل الإعلام المستقلة والمتعددة، مع ضرورة تدريب المسئولين ذوي العلاقة بهذه القوانين علي احترام هذه الأطر في التطبيق الفعلي لها. لقد جاء النص علي إصدار قوانين تنظم الإعلام مواكبا لتوجه عالمي متزايد في هذا الاتجاه خاصة بعد انتشار وتغلغل وسائل الإعلام الجديدة، التي تعتمد أكثر ما تعتمد علي مشاركة الجماهير في إنتاج المحتوى الإعلامي، وهو ما يحتم تنظيم هذا الإعلام الجديد بصورة تجعله خاضعا لتوجهات المجتمع، لكي لا يؤدي إلى نتائج سلبية لا يحمد عقباها.

والملاحظ في هذا النص الأممي أنه يجمع بين احترام حرية التعبير وبين احترام الحق في الخصوصية، وهو جمع كان نادرا ما يظهر في أدبيات اليونسكو وإعلاناتها الدولية، لأنه يرتب مسؤوليات اجتماعية علي الصحافة لم يكن العالم الغربي يرحب بها كثيرا. ويؤكد النص حرص اليونسكو على إحداث نوع من التوازن الحقيقي بين الحرية وبين المسؤولية، إذ لا تعني حرية الإعلام أن يتعرض لحياة الآخرين أو يمس حق الأفراد في الخصوصية.

وحتى لا يترك أمر التنظيم القانوني كاملا للحكومات، تدعو التوصية الثانية إلى استخدام مدخل تشاركي في تطوير القوانين والسياسات الخاصة بالإعلام للتأكد من احترام هذه القوانين وتلك السياسات لحرية التعبير. ورغم غموض هذا النص فإنه يؤكد مسؤولية الحكومات عند إعداد وصياغة أو حتى تعديل أية قوانين تمس الإعلام، مثل قوانين المطبوعات والنشر وقوانين العقوبات وقوانين تقنية المعلومات، أن تشرك الفعاليات المختلفة في المجتمع، وتدخل معها في نقاش حر ومفتوح حول هذه القوانين قبل إقرارها والعمل بها. وتنطلق فكرة إشراك المجتمع في صياغة قوانين الإعلام من حقيقة أن حرية الإعلام لم تعد تعني الصحفيين والإعلاميين فقط، بقدر ما أصبحت تعني المواطنين العاديين الذين من الممكن أن تطبق عليهم مثل هذه القوانين في حال مشاركتهم في إنتاج محتوى إعلامي ونشره على إحدى منصات النشر الرقمية المختلفة.

وبالتوازي مع التنظيم القانوني الذي منحه إعلان أكرا للحكومات، فقد ألزمها في الجانب المقابل بوضع سياسات وآليات حماية وطنية، ليس فقط للصحفيين أثناء أداء مهامهم، ولكن لكل مواطن يتعرض للخطر بسبب استخدام حقه في حرية التعبير السلمي عن رأيه. ويعني ذلك في التطبيق العملي حماية حق التعبير لكل أفراد المجتمع وليس للصحفيين فقط، وضمان ممارسة هذا الحق بنصوص قانونية واضحة وسياسات ملزمة. لقد دعا الإعلان أيضا حكومات الدول الأعضاء إلى إجراء مراجعات- كلما كان ذلك ضروريا- للقيود المفروضة على حرية التعبير خاصة تلك المتعلقة بحماية الأمن الوطني ودعم جهود مكافحة الإرهاب، للتأكد من توافقها مع المعايير الدولية لحرية التعبير. والواقع أن هذا النص يمثل نقلة نوعية أخرى في توجهات اليونسكو ناتجة عن التغير الكبير الذي لحق بالتوجهات الغربية خاصة والدولية عامة في هذا المجال. وتشير القراءة المتأنية لهذا النص إلى إقرار المنظمة الدولية بحق الدول - ربما لأول مرة - في فرض قيود محددة على حرية الصحافة وحرية التعبير في حالة وجود تهديد للأمن الوطني أو اذا كانت الدولة تخوض حربا ضد الإرهاب. ومن شأن هذا النص أن يرضي دولا كثيرة في العالم تعاني من مخاطر الإرهاب، بما في ذلك بعض الدول الغربية التي وقعت بها حوادث إرهابية عديدة في السنوات الأخيرة أجبرتها علي وضع قيود على حرية الصحافة، مثل منع النشر في قضايا محددة أو إعاقة وصول الصحفيين إلى معلومات حساسة تتصل بالأمن الوطني وجهود مكافحة الإرهاب. والواقع أن التحولات الجوهرية في رؤية اليونسكو لحرية الإعلام التي كشف عنها إعلان أكرا لم تتوقف عند ما ذكرناه. وعلى سبيل المثال فإن النص الخاص بالصحفيين المسجونين في قضايا بسبب عملهم لم يطلب من حكومات الدول إطلاق سراحهم، كما كان يحدث في السابق، واتجه إلى المطالبة بمراجعة حالات هؤلاء الصحفيين وإطلاق سراح من يثبت براءتهم. كما أن النص الخاص بمواجهة الهجمات الإلكترونية يقف في صف الحكومات بشكل واضح، إذ يدعوها إلى تشريع قوانين ووضع سياسات لحماية أنظمة الاتصال في الدولة من هذه الهجمات، وتقديم المساعدة للمواطنين والمنظمات التي تتعرض لخطر انتهاك حقوقهم الاتصالية، بالإضافة إلى نشر التربية الإعلامية بين المواطنين خاصة بين الشباب من خلال تضمينها في المناهج الدراسية. إجمالا يمكن القول إن التوصيات التي قدمها إعلان أكرا 2018 إلى حكومات الدول، قد تعيد تشكيل النظام الإعلامي العالمي، وتمنح الدولة الوطنية حقوقا جديدة لم يكن تعترف بها اليونسكو من قبل، وهي حقوق إن أُحسن استخدامها يمكن أن تحقق لدول العالم الثالث ما كانت تطمح إليه، وهو تحقيق السيادة الإعلامية على كامل أراضيها دون التضحية بمبادئ حرية التعبير.