المنوعات

إيفان تورجينيف الطيب الحزين.. عمر من الكتابة الواقعية والحرمان في الحب!

12 مايو 2018
12 مايو 2018

الشربيني عاشور:-

في كتاب « حياة تولستوي» لايلمر مود، تقترب زوجةُ تولستوي من « إيفان تورجينيف» الذي ذهب إلى تولستوي للمشاركة في رحلة صيد وتسأله: « لماذا لم تكتب شيئا من زمن طويل؟».

يجيب تورجينيف بعد أن تلفت حوله، بأنه لم يكتب شيئا إلا وكانت حمى الحب تهزه، أما الآن، وقد أصبح شيخا فإنه لا يحب ولا يكتب!

كان تورجينيف في الثانية والستين من عمره عندما تلقى ملاحظة زوجة تولستوي وسؤالها، لكن إجابته على السؤال المباغت، ستضع بين أيدينا مفتاحا مهما في فهم شخصيته وعلاقته بالحياة والكتابة. وهو ما يدعمه جف إدموندز بقوله: « لقد كان الحب عند تورجينيف مفتاحا للحياة». فالرجل الذي برع في تصوير المشاعر الإنسانية، ووصف النساء بفهم وتسامح، وسعى طوال حياته في التماس العذر لمشاعرهن حتى في أقبح صورها، الرجل الذي أودع قصصه ورواياته كلاما أعذب ما يكون عن الحب والعاطفة، هذا الرجل المُحب عاش في الحقيقة محروما من الحب!

هنا تورق شجرة الغرابة واحدة من أشهر قصص العشق الواقعية عن ذلك العاشق الأفلاطوني: إيفان تورجينيف الواقعي في كتاباته، الرومانسي المثالي في حياته، والمغنية الفرنسية « بولين فياردو».

إنها قصة الحب التي لم يكتبها صراحة، وإن كانت رائعته « الحب الأول» قد كُتبت في وهج الحمى التي هزته منها. وإن كنا نستطيع تلمس أصداء هذا الحب المحروم في ثنايا تلك الرواية الــ (نوفيلا) التي وصفها إدموندز في محاضرة بالجمعية الأدبية الملكية في لندن عام 1947 بأنها « شديدة الفتنة، وأنها القصة الوحيدة في العالم التي يمكنني أن أقول عنها إنها خالية من كل عيب»!

إن حكما نقديا مطلقا مثل هذا لا يمكن التسليم به في عالم يميل إلى النسبية، وإن كان الحكم يعبر عن رؤية صاحبه، وينتمي إلى حقبة زمنية ماضية، إلا أننا بمراجعة الرواية ذاتها بتعريب محمود عبد المنعم مراد لا يمكن أن نتجاهل كونها رواية شديدة الفتنة.

هنا أيضا، وقبل أن أخوض في حب تورجينيف المحروم، وتتبع أصدائه في روايته « الحب الأول» لا بأس من العودة إلى الوراء قليلا، والتوقف أمام سيرة تورجينيف الذاتية، وجانبا من ملامحه الشخصية، التي سأدين في معرفتي بها لعلي أدهم في « ألوان من أدب الغرب»، وإبراهيم زكي خورشيد في مقدمة ترجمته لـ « رودين»، وتشارلز مورجان في « الكاتب وعالمه» ترجمة شكري محمد عياد. وما خطه جي دي موباسان والفونس دوديه في رثاء تورجينيف ونقله إلى العربية غائب طعمة فرمان في ترجمته للمجلد الرابع من الأعمال الكاملة لتورجينيف، فضلا عن قراءات أخرى قديمة.

ولد إيفان تورجينيف في عام 1818 في أسرة معروفة، وصفت بأنها من « أعيان الريف». وتلقى تعليمه في روسيا بجامعتي موسكو وسانت بطرسبرج، وفي سن العشرين سافر إلى ألمانيا، وهناك درس الفلسفة. وكان كتابه « صور صياد» حدثا مهما في مسيرة الأدب الروسي في نهضته الواقعية، تلك النهضة التي أسست لها كتابات جوجول، وبلغت ذروتها على أيدي تورجينيف وتولستوي ودستويفسكي ومن بعدهم تشيخوف وجوركي وآخرون. لدرجة أن الكتاب وباعتراف القيصر، كان من أسباب إلغاء الرق في روسيا القيصرية. وتورجينيف وإن كان كتب الشعر والمسرح في بداياته، إلا أنه اتجه في الأخير إلى كتابة الرواية، لكن خبرته كشاعر لم تذهب هباء، فبوسع قرائه أن يلمسوا هذا الحس الشاعري الذي انعكس على ما خطه قلمه من أعمال نثرية من بينها « رودين» و « الحب الأول» و« أبناء وآباء» و« دخان» وغيرها. حيث تجلت شاعريته في تصوير الطبيعة بصفائها وزخمها، والروح الإنسانية في ابتهاجها وأحزانها، لا بحاسة البصر وحدها، ولكن بحاستي السمع والشم أيضا، إذ كانت « الأبواب بين حواسه مفتوحة» كما وصفه صديقه الروائي الفرنسي الفونس دوديه.

لم يكن أدب تورجينيف زاعقا، ولا بروباجنديا، فالرجل بعيد كل البعد عن البروباجندا، لأنه مشغول بالأعماق، وبتأمل الضعف البشري في مواجهة الطبيعة الصارمة، وباكتشاف الخير الكامن وراء الشر، وكما قال جي دي موباسان « ربما كانت استقامته المفرطة وطيبته الكبيرة الفطرية تشعران بالإهانة حين تواجهان الفظاظة وفساد ورياء الطبيعة البشرية». لذلك فقد اجتهد تورجينيف كبستاني صبور في غرس مفاهيم الخير والحق والجمال، وهو يواجه الحياة بالحب، ويواجه الإسفاف وخسة الطباع البشرية بالكتابة.

وإذا كانت كل الفضائل تنبع من الطيبة التي هي أعظم صفات الإنسان كما رآها بيتهوفن، فقد كان تورجينيف باختصار إنسانا طيبا. وكل من اقترب منه شعر بذلك، لكن أي طيبة يمكن أن يتقصدها المرء في حديثه عن هذا الرجل؟

إنها « الطيبة الحزينة مثل أغنية فلاح روسي» كما تأمله دوديه. الطيبة التي تنزف أحزانها وحيرتها على ضفاف التناقض بين الواقع والمثال. وترسم للرجل صورة المتناقض حتى بين أصدقائه. يقول ارنست رينان: « كان صديقي تورجينيف متناقضا لأنه كان جزءا من الشعب، وفي الوقت نفسه كان من الصفوة المختارة». لكن على أدهم سيضيئ هذا التناقض برؤية مغايرة فيشير إلى أن تورجينيف تنازعته عاطفتان الأولى يمثلها هاملت حيث « الشك واليأس من الإنسانية والمثل الأعلى»، والثانية يمثلها دون كيشوت الذي « يعيش للغير ويعمل لخير الإنسانية، ويجهد لتحقيق مطالبها السامية، ويحاول أن يستأصل الشر». وكانت لتورجينيف طريقته الخاصة في استئصال الشر، فهولا لا يخفيه، ولا ينكره، ولا يعتذر عنه، ولكنه ينظر فيه، ومن ثم يتجاوزه دون أن يزيفه، كما يقول تشارلز مورجان. غير أن تناقض تورجينيف يمكن النظر إليه أيضا من زاوية أخرى، فشكه وتردده وضيقه بخسة الطباع البشرية نبعت من جانبه الإنساني، أما هو كفنان، فلم يكن هناك من هو أبلغ منه عطفا وتسامحا. وهذا العطف والتسامح هو ما منعه ـــ في رأي مورجان ـــ من « الخطابية في أحكامه» إنه لا يدين، ولا يسخط، ولا يلعن، فقط يتفهم ويتعاطف ويصفح. وربما كان ذلك هو السر في ذلك العداء الذي اختصه به العدميون والماديون الذين اتهموه بأنه رومانسي بعيد عن الحقيقة، وعديم الاكتراث بقضايا السياسة وأحداث المجتمع!

لقد كان عصر تورجينيف يموج بالقضايا والقلاقل والاضطرابات السياسية، غير أن تورجينيف المعتدل وغير الدعائي وإن لم يكن له اهتمام مباشر بالسياسة، فقد كانت له اهتماماته بالقيم التي لا غنى عنها لإغناء أي واقع سياسي، وقد تجلي ذلك في إيمانه الذي لا يحيد بالحرية والعدل وتركيزه الدائم على نبل المشاعر الإنسانية. يقول جوزيف كونراد « إن كل صفحة من كتاباته شاهد على خلو الرجل خلوا تاما مقدرا من بلادة الحس».


بالعودة إلى قضية الحب والكتابة التي انطلقت منها، وبمطالعة « الحب الأول» يتبدى أن تورجينيف يحفر عميقا وراء عبودية الحب كقدر يمزج الكوميديا بالمأساة في هذه الرواية، ما يجعله حبا غير عادي: « كان فلاديمير بتروفيتش رجلا في الأربعين ذا شعر فاحم دب فيه الشيب. أجاب في شيء من التردد: لا شك في أن حبي الأول، لم يكن حبا عاديا». أما « زينايدا الفتاة التي أحبها فلاديمير فكان في حركات وجهها» شيء فاتن، جبار، لطيف، ساحر، جذاب حتى كدت أن أصيح إعجابا وابتهاجا، وخِلتني قد أهب كل شيء في الحياة لأظفر بتلك الأصابع الغالية تضربني على جبهتي. سقطت بندقيتي على العشب ونسيت كل شيء والتهمت بعينيَّ تلك الطلعة اللطيفة، والجيد والذراعين الحبيبتين، والشعر الأشقر المشعث بعض الشيء، تحت المنديل الأبيض، والعين الذكية المسبلة، والأهداب، وتحتها الوجنة الناعمة ... ». هل كان فلاديمير بطل الرواية يصف تأثير زينايدا عليه، أم كان تورجينيف يكتب تحت تأثير سُكره بغرامه لبولين فيادرو؟ الثابت أن تورجينيف تسمر في مكانه، وهو يرى بولين للمرة الأولى على خشبة المسرح. لم تكن معه بندقية لتسقط من يده، لكن قلبه طار كعصفور من قفصه الصدري ليحط على شجرة بولين يانعة الخضار.

كانت بولين في الثلاثين من عمرها، جميلة من ذلك النوع المستبد في الجمال. لذلك سيصفها تورجينيف بـ « أروع امرأة في الوجود»، وسيصرح بأنه لن يعطي عينيه إلى امرأة بعدها! هل فعل ذلك حقا؟ الغالب أنه فعل.

ولأن دراما الحياة لا بد أن تستمر في فعلها التشويقي، فإن دقات قلب تورجينيف على نافذة بولين لن تجدي؛ فهي متزوجة وتحب زوجها. كما أنها ـــ وهنا مكمن الألم ـــ امرأة مفتونة بتهافت العشاق والمعجبين من حولها، ولذلك وصفتها جورج ساند بـ « البشعة المحبوبة». فماذا يفعل العاشق الصادق الخجول تورجينيف؟ سيكتب على ضوء شمعة الحب بلا أمل. سيلون قلب فلاديمير بتروفيتش بدموعه ولوعته وحرمانه، وستخرج نهاية « الحب الأول» محزنة ومأساوية حيث تحب « زينايدا» والد فلاديمير، وتقع الجميلة المحبة التي كثيرا ما لهت بتعذيب عشاقها، ضحية لحب هذا الرجل الذي لم يتورع عن ضربها، وهي المخلوق الجميل، بالسوط الذي يضرب به جواده!

أما فلاديمير الذي لم يحظ من هواه سوى بشيء من السُكر، وبشيء من النشوة، وبكثير من الحيرة والألم، فسيظل يذكرها. وهو يحكي لرفاقه عن حبه الأول، بعد أن تجاوز الأربعين من عمره، وبعد أن بدأ الشيب يخط في شعره الأسود الفاحم.

هذا ما كان من أمر الكتابة، أما ما سيكون من أمر الحياة فهو أشد قسوة وحرمانا. سيكتفي تورجينيف بمنزلة المحب الصديق. وسيقوده الولع في الحب إلى مخالفة رغبة أمه الثرية في الابتعاد عن بولين. وسيدفع ثمن هذه المخالفة بحرمان الأم له من نقودها، هي التي كانت تملك أكثر من عشر قرى، وخمسة آلاف عبد من طبقة عبيد الأرض الفلاحين. وهي التي أوغلت في معاملتها الصارمة لأبنائها وعبيدها؛ ليعيش تورجينيف بوهيميا إلى أن تموت الأم فيرثها. كما سيبلغ به الولع إلى الدرجة التي يسكن فيها الطابق العلوي من البيت نفسه الذي تسكن بولين مع زوجها وبناتها في طابقه الأرضي! وسيواجه سخرية بعض المحيطين به من حبه الصامت، بل وسيتخذ قراره بالامتناع عن الزواج، فقد أوقف نبض القلب على بولين!

الحب إذن هو وقود الكتابة، النار التي تدفئ الكلمات، وتنضحها على موقد المشاعر. لذلك أجاب تورجينيف زوجة تولستوي بأنه لم يعد يحب ولا يكتب. فقد ارتبط الحب بالكتابة، والكتابة بالحب، عند رجل كانت الكتابة لديه فعلا روحيا، ولم يعد أمامه في الحياة سوى أقل من ثلاث سنوات.

وإذا كان فلاديمير قد عاش حتى شهد موت أبيه، ثم موت « زينايدا « وهي تضع مولودها من رجل آخر غير أبيه. فإن تورجينيف لم يعش ليرى النهاية المأساوية لحبيبته بولين. كان قد سبقها إلى الموت بأشهر. كما سبقه زوجها إلى الموت بأشهر أيضا. وفي أيامه الأخيرة يعاني تورجينيف من سكرات الموت كثيرا. وتصعد بولين إلى غرفته لترى الرجل الذي صبر وثابر على حبها لأكثر من ثلاثين عاما كأنه الجبل لا يتزحزح. الرجل الذي ارتضى أن يلازمها كظلها دون أن ينال شيئا غير حبه الغارق في الحرمان والمثالية. وعندما تراه بولين يُحْتَضر تحتضنه، ثم إنها بعد وفاته، تفرض على نفسها طوقا من العزلة، فتلتزم غرفتها حتى تموت. وجاء في تفاصيل موتها أنها تناولت نوعا من السم البطيء! هل أحست بولين بالذنب؟ هل كانت مذنبة فعلا؟ إنه موضوع آخر. لكن الأمور تحدث هكذا في الحياة. إذ يبلغ قدر الكاتب ما لم يبلغه قلمه أو يخطر له في خيال. إلا أن هذا القدر وهو يضعنا أمام هذا النمط من الرجال لا يمنحنا الفرصة لقبول كامل بما ارتضوه لأنفسهم مما قد نراه ابتذالا في الحب، وإن كنا ـــ وبروحية تورجينيف ذاته ـــ لا نستطيع منع أنفسنا من التعاطف معهم أحيانا، وصب اللعنة دائما على الحرمان في الحب.