أفكار وآراء

عودة لسؤال النهضة.. بماذا أجاب مالك بن نبي؟

12 مايو 2018
12 مايو 2018

د. عبد العاطي محمد -

لمالك بن نبي المفكر الجزائري الراحل إسهام مرموق في مسار الفكر الإسلامي العربي بحثا عن أسباب النهضة وشروطها. هو أحد أعلام هذا الفكر في القرن العشرين. ومع أن أطروحاته لم تجد طريقها إلى النور كما كان يتوقع، شأنه في ذلك للأسف شأن العديد من رواد النهضة الإسلامية والعربية، إلا أن أطروحاته لا تزال صحيحة، وقد استفاد منها البعض ولو جزئيا. ولعل المحن التي تمر بها منطقتنا العربية كفيلة بشحذ الهمم لوضع هذه الأطروحات في دائرة الفعل.

توفي ابن نبي31 أكتوبر 1973 بمدينة الجزائر عن عمر 68 عاما. ولكنه ترك تراثا ثريا في موضوع الحضارة استنادا إلى علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ، ومن الذين تأثروا بالعلّامة التونسي ابن خلدون رائد علم الاجتماع العربي بلا منازع حتى الآن. وقد تعلم العربية وهو في عمر الخمسين! ولذلك فإن كثيرا من أعماله مترجمة عن الفرنسية. ومن يعود إليها يكتشف بسهولة أن همّ النهضة قديم الجذور في تراثنا الفكري الإسلامي والعربي، ولا يختلف في مواصفاته من حيث الأسباب والشروط والمتطلبات عما يمكن أن يتحدث فيه أحد اليوم. ومن هنا الغرابة الشديدة عن السر وراء الإخفاق والاستمرار في إلقاء السؤال القديم على أنفسنا صباح مساء: لماذا التخلف وكيف النهضة؟. ولا شك أن هناك تجارب عربية قدر لها النجاح حتى لو كانت لا تزال تواجه تحديات ومصاعب، تجارب استوعبت العناصر التي أفنى ابن نبي حياته الفكرية في سبيل الدعوة إليها. وهذا هو نصف الكوب الممتلئ أو الأقل في الموضوع، ولكن النصف الفارغ أو الأكثر لا يزال على حاله، وباستعصاء شديد على الانفلات من أسبابه.

مؤخرا شاءت الصدف أن أشاهد واستمع لفيديو قصير تحدث فيه مالك بن نبي إلى برنامج نور على نور الذي كان يقدمه الراحل أحمد فراج في التليفزيون المصري وقت أن كان إرساله أبيض وأسود، أي يعود لأوائل ستينات القرن العشرين، أو مضى عليه أكثر من نصف قرن!. وكان الموضوع عن العوامل التي يجب أن تؤدى إلى نهضة العالم الإسلامي العربي. ومع أن الظروف العامة وقتها لا تساوي شيئا في صعوبتها مقارنة بما نعيشه اليوم، إلا أن إجابات ابن نبي بدت وكأنها تتحدث بلغة اليوم، فما كان يصلح منها للماضي لا يزال يصلح للحاضر برغم كل ما فيه من مرارة. فقط ما يمكن اعتباره عاملا فارقا للمقارنة بين الماضي والحاضر هو تأثير الأداء، وذلك أمر ما كان بمقدور ابن نبي ولا غيره أن يتنبأ به أو يتوقعه.

في كلام ابن نبي وبرغم قصر مدة البرنامج ركز العلامة والمفكر الجزائري القدير على أمرين مهمين لا يزالان في الحقيقة من القضايا التي يجب أن يعتنى بها المفكرون والمثقفون في حاضر الزمان عند تصديهم لموضوع النهضة.

الأول هو ما اعتبره ابن نبي مصادر للنهضة وحددها في ثلاثة مصادر هي: الأشياء والأفكار والشخصيات. وقصد بالأشياء العوامل المادية والفنية كمنتجات العلوم الطبيعية التي ترقى بحياة الإنسان سواء في الصناعة أو الزراعة أو التعليم والصحة وإدارة الأموال وغيرها من الموارد الاقتصادية. ويمكن أن نضيف من عندنا المناخ والخصائص الطبيعية التي تؤدى إلى مزيد من التقدم أو تعوقه، وأما بخصوص الأفكار فقصد بها بالطبع الرؤية لإقامة الحضارة من حيث الفهم لمقوماتها وشروطها والالتزام بهذه الشروط. هنا القيم تلعب دورا أساسيا، فإما أن تنحاز للتنوير والاجتهاد والعقلانية، أو للجمود والانعزال عن العصر والفكر الواحد. ولم يفت ابن نبي التأكيد على أهمية العلوم الإنسانية، فكما أوضحنا سابقا نظرا للحضارة من منظور علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ، وتلك من المهام الأساسية للمعنيين بالعلوم الإنسانية. هذه العلوم هي التي تبدع الثراء الحضاري في كل مجال بجانب ما تقدمه العلوم الطبيعية، وهى التي تقوم بعملية التنشئة البشرية الضرورية لدفع منجزات الحضارة المادية إلى الأمام دون تدمير للشخصية الوطنية. وهي التي تنشئ باختصار مواطنا مدنيا متدينا. وأخيرا هناك مصدر الشخصيات، ويقصد به توافر القيادات والمساعدين الصالحين الذين لديهم إيمان عميق بفكرة التقدم والحضارة مهما كانت قوة التحديات. هؤلاء يقودون الأمة ويحددون المسار ويتبنون أفكارا نهضوية يجري غرسها في صفوف الأمة. والتاريخ يؤكد ذلك، فما من أمة نهضت إلا بوجود هذه النوعية من البشر المخلصين لقضية النهضة.

هذه المصادر يجب أن تجتمع معا، ولكن ابن نبي أعطى اهتماما أكبر لمصدر الأفكار. فمن الممكن أن تتوافر الظروف المادية (الأشياء) وكذلك الشخصيات الصالحة، ولكن ما العمل إذا كان المناخ الفكري المتغلب يجر الجميع إلى الوراء؟!. فما من عمل إلا وأساسه فكرة ما، إن صلحت صلح العمل وإن فسدت فسد العمل بكل تأكيد. وكثير من مثقفي ومفكري القرن العشرين العرب كانوا معنيين إلى حد كبير بموضع الفكر قبل العمل على أساس أن للفكر وظيفة كفاحية هي تغيير الواقع (المادي) ووظيفة فلسفية تطرح تصورات للمستقبل قد يتم العمل بها أولا يتم، ولكنها تضع خيارات في نهاية الأمر ولا تحشر الأمة في طريق واحد.

لو حاولنا تنزيل ما قاله ابن نبي على الواقع العربي والإسلامي المعاصر لإثراء النقاش، وبحثا عن الطريق الذي نستعيد به ما قاله المفكر الجزائري المرموق ولو جزئيا، سنلاحظ شيئين مهمين، بينما هناك شيء ثالث كان وراء الكوارث التي عرقلت تحقيق النهضة لعموم العرب والمسلمين يتعلق في جوهره بالأزمات الفكرية التي ضربت عقل الأمة وحادت بها عن الطريق السليم، أو عرقلت محاولاتها النهضوية حتى لو كانت محدودة، فمن الصحيح أن المنطقة العربية والإسلامية لم تتمكن من أن يكون لها منتجها المادي الخاص أو أن تساهم بدور واضح في المنجزات البشرية العالمية، حيث ان كل ما تستهلكه من غذاء ومسكن وملبس وخدمات أساسية (صحة وتعليم) هو من العالم غير الإسلامي الغربي، والمعنى أن مصدر الأشياء الذي أشار إليه ابن نبي لم يتوفر للعرب والمسلمين. ولكن هذا مردود عليه باستحالة المقارنة أصلا بين طرفين أحدهما قفز قفزات تاريخية حاسمة فكانت له السيطرة والهيمنة على مفاتيح التقدم، وطرف عاش قرونا بعيد عن هذا كله. ومن جهة أخرى لا يمكن إغفال حجم التقدم الذي حدث على الجانبين العربي والإسلامي فيما يتعلق بمحاكاة المنتجات الغربية في كل مجال والجهد هنا لا ينكره سوى جاحد أو حاقد. وعليه فإن التحليل المنصف يقتضى تنحية عامل الأشياء الذي يحدث عنه ابن نبي.

وصحيح أن مصدر الشخصيات يشوبه الغموض، ليس لأنه لم تظهر شخصيات قيادية فذة ونخبة صالحة، بل على العكس من ذلك توافرت مثل هذه الشخصيات هنا وهناك من المحيط إلى الخليج، وإنما لأنه تواجد بجانب هؤلاء قطاع من غير المخلصين أو الفاسدين. من واجهوا هؤلاء بحسم نجحوا، وحافظوا على نقاء مصدر الشخصيات الذي أشار إليه ابن نبي، ولكن قطاعا لا يستهان به في تجارب أخرى فشل في هذا التوجه فمُني بالكوارث الواحدة تلو الأخرى.

المشكلة الحقيقية تكمن في جانب الأفكار. ودون الدخول في تفاصيل عديدة لا يسع المقام لذكرها، يكفي الإشارة إلى عدد الحروب التي مرت بها المنطقة العربية والإسلامية على مدى نصف قرن أو أكثر، فكلها نجمت عن خلافات فكرية جذورها طائفية أو مذهبية أو مناطقية أو صراعات إيديولوجية أو للصراع حول القضية الفلسطينية وأخيرا حول توجهات النظم السياسية. وكأمثلة يمكن الإشارة إلى حرب اليمن (الأولى) 1962-1970، وحرب يونيو 1967- 1973، والحرب الأهلية اللبنانية 1975- 1990، وحرب الخليج الأولى بين إيران والعراق 1980- 1988، والحرب الأهلية الأفغانية 1989- 1992، وغزو العراق للكويت 2 أغسطس 1990، ثم تحرير الكويت 28 فبراير 1990، وحرب البوسنة والهرسك 1992-1995، والحرب على أفغانستان 2001-2014، والحرب على العراق (الخليج الثانية) 19 مارس 2003-مايو2003، والحرب الأهلية في الصومال 2006- 2009، والحرب في جنوب السودان 1983- 2011، وأخيرا حروب ما يسمى بالربيع العربي من 2011 وحتى الآن.

وأما الأمر الثاني الذي ركز عليه ابن نبي فيما شاهدته من الفيديو القصير القديم جدا، فهو تفنيده لمقولة غربية خبيثة، ترددت في زمانه ولا تزال تتردد حتى اليوم وإن كانت هناك محاولات غربية رسمية للتخلص منها، ألا وهي ادعاءات من سماهم بالسفسطائيين الغربيين الذين يروجون لمنطق مفاده أن الإسلام لا يقبل الحضارة!، ويحمل ابن نبي هؤلاء المسؤولية ليس فقط عن عرقلة مشروع النهضة العربي الإسلامي، وإنما أيضا عن تأجيج الصراع بين الغرب والإسلام من منطلق ديني في استحضار جديد للحروب الصليبية. ويقول الرجل أن هؤلاء يوجهون رسالة خبيثة للمسلمين بقولهم أنتم تقولون إن الإسلام أفضل الأديان، ثم يقولون لهم أيضا في خطوة تالية ولكن واقعكم الحضاري يقول غير ذلك فأيهما تصدقون الخطاب العام أم الواقع الذي ترونه بأم أعينكم. وكان رد ابن نبي قاطعا حاسما بالإشارة إلى أنه لولا وصول الحضارة الإسلامية إلى الأندلس لاستمرت أوروبا على تخلفها لعشرات القرون وكانت وقتها تعيش واقع التخلف على مدى ثمانية قرون!، ومما لا شك فيه أن ابن نبي كان يؤكد بذلك أن الإسلام دين حضاري أي يمتلك مقومات النهضة. المعنيون بإصلاح حال الأمة العربية والإسلامية في وقتنا المعاصر واجب عليهم أن يفتشوا في تراث ابن نبي وأمثاله الكثر من رواد القرن العشرين على الأقل والقائمة تطول، وأن يعيدوا إلى النور هذا التراث بما يرونه مناسبا من أدوات هذا الزمان، فما أكثر الأجيال التي تجهله، واستعادة مثل هذا النموذج يسهم حقا في تصحيح المسار الفكري الذي أصبح أسيرا إما للتطرف البغيض أو الحروب المدمرة.