أفكار وآراء

نفاد الصبر الاستراتيجي.. وترقب الاستسلام الوقائي !!

12 مايو 2018
12 مايو 2018

عماد عريان -

,, لا شك في أن المشهد الراهن المهيمن على شبه الجزيرة الكورية يختلف تماما عن تلك المشاهد الساخنة التي عاشتها المنطقة ذاتها والعالم أيضا قبل أشهر قليلة عندما بلغ التوتر مداه على خلفية تصعيد كوريا الشمالية لتجاربها النووية والصاروخية ,,

تصاعد حديث الحرب بشكل مخيف في شرق آسيا مع تكثيف كوريا الشمالية لتجاربها النووية والصاروخية وإعلانها الصريح عن تطويرها صواريخ بالستية قادرة على الوصول للعمق الأمريكي، وارتبط بذلك تصعيد مماثل من الجانب الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة في ظل القيادة الجمهورية الجديدة برئاسة دونالد ترامب واستكمال أركان أداته اليمينية المتطرفة، كما ارتبط بذلك فرض عقوبات صارمة على بيونج يانج مع تأكيدات أمريكية صارمة بأن سياسة الصبر الاستراتيجي التي اتبعتها واشنطن على مدى عقود طويلة قد أوشكت بالفعل على النفاد وأن كل الخيارات مطروحة للتعامل مع البرنامج النووي الكوري الشمالي بما في ذلك التدخل العسكري أو الاستسلام الوقائي من جانب بيونج يانج !

والحقيقة أن أكثر المحللين تشاؤما استبعد فكرة العمل العسكري في ذروة التوتر، ليس للحكمة السياسية التي تتمتع بها التصرفات الأمريكية ، ولكن لأن منظومة الأمن الإقليمي التي تشمل دولا مؤثرة مثل الصين وروسيا وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية ترفض تماما مثل هذا التصعيد العسكري ، حتى ولو استهجنت واستنكرت التصعيد النووي - الصاروخي من جانب بيونج يانج . وكان الاتجاه السائد في معظم مقالات وتحليلات نشرت على صفحات الملف السياسي أن العمل المخابراتي والدبلوماسي السري سيكون له الغلبة لإحداث تأثير حقيقي على المواقف الكورية الشمالية التي شهدت تحولات وتغيرات ومناورات دراماتيكية على مدى عقود طويلة من عمر الصراع.

فبينما لم تلتزم كوريا الشمالية بالهدنة التي وقّعتها مع الولايات المتحدة قبل نهاية يوليو من العام 1953،والتي بموجبها توقفت الحرب الكورية التي اندلعت قبلها بثلاثة أعوام من دون توقيع اتفاقية سلام بينهما، لم تف واشنطن بتعهداتها التي وردت في الاتفاق الإطاري للعام 1994، الذي نص على أن توقف كوريا الشمالية برنامجها النووي وتغلق مفاعلها النووي في يونجبون الذي بدأت نشاطها النووي فيه عام 1987، مقابل تزويد واشنطن لها بمفاعلين نوويين يعملان بالماء الخفيف، وبناء عليه، استأنفت كوريا الشمالية نشاطها النووي مجددا، فيما هددت واشنطن وقتها بضرب المفاعل النووي لكوريا الشمالية.

وفي عام 1999 عرضت كوريا الشمالية وقفا طوعيا لتجاربها الصاروخية ، لكن هذا الوقف انهار عام 2006 وأعادت بيونج يانج تشغيل مفاعل يونجبون وطردت المراقبين الدوليين من البلاد في نهاية عام 2002، وذلك على أثر اتهام أمريكا لكوريا الشمالية أن لها برنامجا نوويا سريا، واتهام كوريا الشمالية لأمريكا بالنكوص عن وعودها بتقديم مفاعلين نوويين يعملان بالماء الخفيف. وفي أكتوبر 2006 أعلنت كوريا الشمالية عن إجراء أولى تجاربها النووية الناجحة، وفي فبراير عام 2007 ،اتفقت بيونج يانج مع السداسية الدولية التي تضم كوريا الشمالية نفسها وأمريكا وروسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية على إغلاق مفاعلها النووي يونجبون مقابل تزويد الغرب لها بالوقود، وتقديم واشنطن دعم اقتصادي لكوريا الشمالية بقيمة 25 مليون دولار، وبعد نقل الأموال إلى كوريا الشمالية سمح لفرق التفتيش والمراقبين بالدخول وأغلق مفاعل يونجبون. وفي يوليو 2008 سلمت كوريا الشمالية تقريرها المتعلق ببرنامجها النووي في إطار صفقة تخليها عن برنامجها النووي ، غير أن المباحثات توقفت في نهاية العام عام 2008 على أثر إصرار واشنطن على المطالبة بالتأكد من التزام كوريا الشمالية بالتزاماتها التي تعهدت بها في الاتفاقيات السابقة.

وفي بداية العام 2009 أعلنت كوريا الشمالية عن انسحابها من السداسية الدولية وإعادة تشغيل مفاعلها النووي في يونجبون بعد أن طردت المفتشين الدوليين من البلاد وهددت باستئناف تجاربها النووية ، كما أجرت في شهر ابريل تجربة لإطلاق صاروخ طويل المدى يحمل قمرا صناعيا ، وأخرى على صاروخ بالستي بعيد المدى قادر على توصيل قنبلتها النووية بدلا من حملها على طائرة يمكن اعتراضها ومنعها من الوصول إلى هدفها، فاتخذ مجلس الأمن الدولي قرارا في 13أبريل 2009 يدينها ويطلب تطبيق العقوبات التي جمدت من قبل بعد قرار مجلس الأمن رقم 1718 عام 2006 عقب إجرائها أول تجربة نووية، ونتيجة ذلك، أعلنت بيونج يانج ثانية انسحابها من السداسية الدولية ، وإنهاء التزامها بأية اتفاقيات أبرمت خلالها ، وفي 25 مايو 2009،أعلنت إجراء ثانية تجاربها النووية الناجحة. وفي شهر نوفمبر 2017،أعلنت بيونج يانج أنها نجحت في اختبار نوع جديد من الصواريخ البالستية العابرة للقارات قادرة على الوصول إلى الأراضي الأمريكية.

وهناك دافع استراتيجي آخر قد يحمل بيونج يانج على التراجع عن قرارها وقف التجارب الصاروخية إذا ما باءت محاولاتها للتفاهم مع واشنطن وسول بالفشل، وهو تواضع أعداد الصواريخ البالستية العابرة للقارات كما عدد منصات إطلاقها حيث لم تجر بيونج يانج سوى ثلاث تجارب صاروخية فقط على صواريخ عابرة للقارات قادرة على حمل رؤوس نووية يمكن أن تبلغ الأراضي الأمريكية بجزيرة جوام القريبة، ولم يتضمن أيا من تلك التجارب إطلاق صاروخ في مسار مشابه للمسار الذي قد يكون ضروريا لتنفيذ هجوم نووي، مما أبقى اختبار صاروخ بهذه الطريقة ضروريا، لكي تصبح بيونج يانج واثقة من قدراتها الفعلية على مهاجمة الأراضي الأمريكية بعدد وافر من الصواريخ ومنصات إطلاقها. وبينما أصبحت بيونغ يانغ متمكنة من أغلب المتطلبات الضرورية، على المستوى التقني، لتهديد الأراضي الأمريكية، إلا أن قوتها الصاروخية لا زالت محدودة، بعدد قليل من الصواريخ البالستية العابرة للقارات ومنصات إطلاقها ، والتي لم تتجاوز ست منصات فقط . ربما ستركز كوريا الشمالية، في الفترة المقبلة، على معاودة النشاط بغية زيادة أعداد تلك الصواريخ والمنصات .

ويبدو أن أزمة الثقة المزمنة بين واشنطن وبيونج يانج أعمق من أن يعالجها إعلان الرئيس الكوري الشمالي بإعلان وقف التجارب النووية والصاروخية ، أو حتى لقاءات يمكن أن توصف بالتاريخية بينه وبين نظيريه الكوري الجنوبي والأمريكي، فلا زالت بيونج يانج أسيرة يقين بأن واشنطن تستغل الأزمة الكورية لتعزيز تموضعها الاستراتيجي في إقليم شرق آسيا بغية تطويق الصين وروسيا استراتيجيا وابتزازهما اقتصاديا وسياسيا ، ومنع الصين من ضم تايوان إليها، لذا عمدت إلى خداع بيونج يانج عبر مطالبتها بوقف كافة أنشطتها النووية والصاروخية مقابل وعود كاذبة أو التزامات لن تتورع واشنطن عن المماطلة في الوفاء بها أو التراجع عن تنفيذ قسم منها ، في مسعى للضغط على بيونج يانج وتضييق الخناق عليها لحملها على التخلي عن مشاريعها التسليحية الاستراتيجية بأقل ثمن، حتى أضحت منذ العام 2006 تئن من وطأة أقسى أنواع العقوبات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية التي عرفها التاريخ الحديث ، الأمر الذي لم يزد نظام كوريا الشمالية إلا عنادا وإصرارا على استئناف أنشطتها الرامية إلى تطوير قدراتها النووية والصاروخية بكثافة أشد ووتيرة أسرع.

العالم إذن بصدد موقف ينطوي على نفاد الصبر الإستراتيجي لواشنطن ومطالبة بيونج يانج بالاستسلام الوقائي وتسليم مواقعها ومنشآتها النووية على غرار التجربة الليبية في هذا المجال، ولكن في كل الأحوال من المبكر الحديث عن البواعث والأسباب الخفية التي دفعت بيونج يانج لتغيير مواقفها - إن كان هناك تغيير بالفعل - وكذلك من المبكر الحديث عن تحولات جوهرية، فقد يكون وقف التجارب النووية وإغلاق منشأة نووية مهمة في كوريا الشمالية رسالة مهمة صادقة نحو البحث عن تسوية سلمية دائمة، وربما يكون نتيجة تدمير الموقع النووي بسبب انهيارات جبلية ناجمة عن التجارب كما رصدت تقارير إخبارية مؤخرا!! إلا أن المؤكد أن الصبر الإستراتيجي لواشنطن ربما نفد بالفعل، ولكن بيونج يانج لن تسارع إلى الاستسلام الوقائي .