1329622
1329622
إشراقات

حتى لا يكون الحظ مـــــن الصيام الجوع والعطش

10 مايو 2018
10 مايو 2018

الصيام الحقيقي -

د.صالح بن سعيد الحوسني -

اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى أن يخلق الإنسان على هذه الحياة ليقوم بمهمة العبادة له تعالى وحده وليعمر هذه الأرض وفق منهج الله الذي ارتضاه لعباده من خلال رسله الكرام الذي هم جاؤوا بدعوة الحق والذين هم القدوة للبشر كما قال تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، وعلى هذا لم يكن للإنسان أن يسير وفق هواه كما يريد بل كانت هناك التشريعات المختلفة لينعم الإنسان بالسعادة والسكينة في هذه الحياة والفوز في العقبى في سيره على هذا المنهج الواضح البين.

ومن الواجبات المفروضة على المسلم صيام شهر كامل من كل عام كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، فصيام شهر رمضان من الأركان الواجبة على كل مكلف، وقد بينت الآية الكريمة أن هذه الفريضة لم تكن واجبة على أمة الإسلام فقط بل هي مما افترضه الله تعالى على السابقين من الأمم الماضية، ليحسن إقبالهم على هذه العبادة والطاعة، وهذا كله لغرض الرقي بهذا الإنسان في درجات الخير والنجاح والسعادة في الدنيا والآخرة، لأن الصوم فوائده وآثاره كبيرة على الفرد والمجتمع .

والصوم الذي يعني مطلق الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس مع النية حال العلم بكونه صائما يتضمن جملة من الممنوعات خلال فترة الصيام فهو امتناع عن الأكل والشرب والمباشرة الجنسية وأيضا بجانب هذه الممنوعات الحسية يمتنع الصائم عما يعرض صيامه للفساد والنقض كالامتناع عن المعاصي والسيئات لأن الصوم غايته هي الوصول لتقوى الله تعالى وأي غاية ترتجى من شخص أمسك عن الأطعمة والأشربة التي هي من الطيبات وأفطر على المحرمات والمعاصي التي هي المقصودة الأولى من تشريع الصيام، لذا فإن الصيام المطلوب ليس هو صوم البطن والفرج فقط، وإنما كما قيل هو صوم الإنسان بكليته عما يعرض صومه للبطلان فالقلب ينبغي أن يصوم، وصيامه يكون بكفه عن الوساوس والشبهات المختلفة، والسمع لا بد وأن يصوم كذلك وصومه يكون بكفه عن سماع المحرمات من الكلام كالغناء الفاحش والكلام الخليع الساقط وسماع الغيبة والنميمة، واللسان صومه إنما يتحقق بتركه لكل كلام محرم كالكذب والبهتان وقول الزور والتنابز بالألقاب والسب والشتم ونحو ذلك من آفات اللسان الكثيرة، والبصر إنما صومه يكون بعدم إطلاقه في رؤية العورات المحرمة والنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه، وهكذا بقية الجوارح، إنما عليها أن تستشعر حقيقة الصيام وأثره العظيم في النفس والقلب والخلق لتخرج من مدرسة الصيام بتلك المنافع العظيمة.

وحتى يصل الإنسان إلى تلك المراتب العالية والحقائق الراقية عليه أن يأخذ ببعض هذه الخطوات التي تنير له درب العبادة بصورة تامة ومن أهم هذه الخطوات ما يأتي:

- أن تستشعر النفوس أن هذه العبادة هي موسم عظيم لكسب الحسنات وإصلاح النفوس وتزكيتها، فرمضان فرصة للمسارعة للخير وفعل الحسنات فهو شهر تضاعف فيه الحسنات وتفتح فيه أبواب الجنة كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هذا شهر رمضان جاءكم تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتسلسل فيه الشياطين»، ومن المعلوم كذلك أن في هذا الشهر ليلة عظيمة ألا وهي ليلة القدر التي قال الله فيها (ليلة القدر خير من ألف شهر)، وفي هذا الشهر أنزل القرآن الكريم الذي هو دستور حياة المسلمين وطريق هدايتهم وفلاحهم، إلى غير ذلك من الفضائل الكثيرة والتي إن فهمتها النفوس وعقلتها القلوب كان الحماس كثيرا للنهوض بهذه النفس وتزكيتها ومحاولة نقلها من حال إلى حال أخرى.

ومن العجيب أن بعض الناس ينظر إلى هذا الشهر نظرة كدر وتبرم وكأنه حمل ثقيل وعبء عظيم فتراه ينتظر بفارغ الصبر نهايته ليعود إلى سالف عهده قبل رمضان وكأن رمضان قيود وأغلال تحد من حرية الإنسان وتمنعه من ملذاته ومباحاته، وما هكذا كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان مع شهر الغفران والخيرات إذ كانوا يترقبون وصوله ويشتاقون إليه وكانوا يعدونه ميزان العام، وبه يعيدون تنظيم أمورهم وإصلاح نفوسهم والتزود لعام مقبل عليهم حتى إذا ما ودعوا رمضان ظلوا شهورا يسألون الله أن يتقبل منهم صيامهم ودعوا بقية العام أن يبلغهم رمضان آخر ليعملوا فيه بجد وإخلاص ليظفروا ببركة ومنافع هذا الشهر الكثيرة.

- أن يستقبل الإنسان رمضان بتوبة صادقة لله تعالى، فإن وقر الإيمان في القلوب أحدث ذلك خضوعا لله تعالى كان من ثمرته التوبة والإنابة لله تعالى التي تتمثل بالاستغفار من الذنوب باللسان والندم على الوقوع فيها بالقلب فالندم توبة كما جاء في بعض الروايات، وبعد ذلك عقد العزم على عدم مقارفة الذنب مرة أخرى كما لا يعود اللبن إلى الضرع مرة أخرى، وبعد ذلك إرجاع الحقوق المختلفة لأصحابها وبهذا الأمر يكون الاستعداد لملاقاة هذا الضيف الكريم الذي هو موسم حافل بالخير والعطاء من الخالق الكريم.

- وضع برنامج متكامل لقضاء أيام وليالي هذا الشهر الفضيل وذلك بأن يوزع الإنسان وقته فيما ينفعه من أمور دينه ودنياه مع ضرورة أن يصرف الجزء الأكبر من ذلك في العبادة والطاعة كالدعاء والاستغفار وقراءة القرآن الكريم التي يحرص عليها الإنسان في يومه وليله فإن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه أنه كان يدارس القرآن مع سيدنا جبريل في شهر رمضان، بجانب أن الآية بينت علاقة الصيام بالقرآن في قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)، فينبغي متابعة قراءة القرآن للصائم، مع الاهتمام بصلاة قيام رمضان (التراويح) وكذا الاهتمام بقيام الليل، وأيضا الصدقة وتفطير الصائمين وصلة الأرحام والجيران وغيرها من أنواع البر والخير التي تعلي شأن الإنسان في الدنيا والآخرة. - عدم الانشغال عن رمضان، وهذا ما يلاحظ عند بعض الناس فبدلا من المسارعة في رمضان لصنوف البر والخير المختلفة فإنهم يغفلون عن تلك الأوقات المباركة فينصرفون لتهيئة الموائد الرمضانية بمختلف أصنافها وأشكالها فهم في سعي متواصل للأسواق لإحضار تلك المطعومات والمشروبات المختلفة ويصرفون بقية الأوقات في صنعها وتجهيزها، عدا ما يكون من سهر لساعات متأخرة من الليل في أمور ليست ذات نفع كبير أو فائدة فيخسرون هذه الأوقات التي إن ذهبت لا يمكن تعويضها بحال من الأحوال، وحسب الإنسان أن يجهز ما يحتاجه من طعام دون إسراف أو تقتير ويجعل همه الأكبر في اقتناص تلك الغنائم والفضائل التي ذكرت في مساق هذا الضيف الكريم والشهر الفضيل.

وباستحضار هذه المعاني ووضع هذه البرامج يؤمل للإنسان أن يستفيد وينتفع الانتفاع الأكبر من هذه الغنيمة القادمة وهذا الكنز الكبير الذي هو متاح لكل أحد إن أحسن النية واخلص المقصد لله تعالى، فإن المحروم فعلا هو من حرم خير هذا الشهر وسوّف وأهمل نفسه حتى مرت أيامه ولياليه فوجد نفسه وقد انسلخ رمضان ولم يخرج منه إلا بالحسرات والذنوب المهلكات، فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب كما جاء ذلك عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فسبحان الله كم هو ألم هذا الصنف من الناس كبير فهو في ظاهره من جملة الصائمين والقائمين فيصوم بصومهم ويفطر معهم ولكنه لم يستوعب حكمة الصيام، ولم يرتق بنفسه لتتهذب بأخلاق الصائمين، ولم يضبط جوارحه وأعضاءه فتعب من الجوع والعطش ومن طول القيام ويظن أنه على شيء وليس الأمر كذلك. ومن المهم والضروري في نفس الوقت أن يعلم الإنسان أن الله غني عن العالمين (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)، فمهما كانت عبادتنا وطاعتنا فهي لفائدتنا فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، وهذا الصيام إنما هو لنرتقي ونصل إلى درجات الرقي البشري ولنظفر بخيري الدنيا والآخرة في موسم استثنائي لا يتكرر إلا شهرا واحدا في كل عام، فلنجعل من رمضان هذا العام فرصة سانحة لنتخلى عن عاداتنا السيئة واستبدالها بالعادات الحسنة والتقرب لله تعالى بصنوف الطاعات لتكون زادا وذخرا لنا في الحياة وبعد الممات.