أفكار وآراء

أمريكا.. وداعا للشرق الأوسط

09 مايو 2018
09 مايو 2018

إدوارد لوس- الفاينانشال تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

إذا أردت اختلاس نظرة لعالم «ما بعد أمريكا» فانظر إلى سوريا. لقد قال الرئيس دونالد ترامب مؤخرا « دعوا الآخرين يهتمون بها الآن.» ربما غيَّر رأيه هذا لبرهة وجيزة بعد الهجوم المزعوم بالأسلحة الكيماوية هذا الشهر. لكن «سبق السيفُ العذل» فبعد مضي ست سنوات من تصريح سلفه باراك أوباما بأن على بشار الأسد الذهاب يبدو وضع الرئيس السوري الآن أكثر أمانا قياسا بأي وقت مضى. إن مستقبل سوريا سيتقرر بواسطة روسيا وإيران وتركيا.

وترغب موسكو وطهران الإبقاء على الأسد في الحكم. إن ذلك الشيء الذي يفكر فيه ترامب فيما يخص الشرق الأوسط سيتغير، مهما كان، خلال مدة وجيزة في الغالب. وحتى إذا كانت الصواريخ التي أطلقها على سوريا «لطيفة وجديدة وذكية» كما غرَّد في تويتر يوم الأربعاء 12 أبريل إلا أن الولايات المتحدة ستستأنف فك ارتباطها بالمنطقة. مواقف ترامب عَرَضٌ وليست سببا لإحساس أمريكا بالتعب (من دورها العالمي).

لقد جاءت نقطة تحولها الرئيسية في الشرق الأوسط في لحظتين عند بداية هذا القرن. الأولى كانت حين حاول بيل كلينتون دون نجاح التوسط في اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين، ولو كان قد تمكن من الوصول إلى الاتفاق لأمكن استئصال الشكوى العربية الأشد مرارة ضد الولايات المتحدة وأقوى عذر لتبرير القمع الداخلي. وكانت فكرة أن ترامب يملك القدرة على إخراج اتفاق الدولتين من قبعته مستبعدة جدا قبل تصريحه بأنه سينقل سفارة أمريكا إلى القدس. أما الآن فهي نكتة. واللحظة الثانية للتحول الأمريكي كانت الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001.

لقد جن جنون السياسة الأمريكية منذ ذلك الوقت. وسوريا هي ثمرتها الدموية. وإنصافا لترامب من الصعب تحميله مسؤولية أي شيء من ذلك. فالقرار الذي اتخذ إبان رئاسة جورج دبليو بوش الابن بِحَلِّ الجيش العراقي وتسريح موظفي الخدمة المدنية غرس جذور صعود داعش. وقرار باراك أوباما بسحب القوات الأمريكية من العراق في عام 2011 أتاح لها فراغا لتشغله. وقراره في عام 2013 بفرض «خط أحمر» ضد استخدام الأسد للسلاح الكيماوي قدم منفذا لدخول روسيا، اندفع رئيسها فلاديمير بوتين عبره إلى سوريا. منذ ذلك التاريخ ظلت الولايات المتحدة لاعبا هامشيا فيها. ولن تغير «زخة» أخرى من الصواريخ الأمريكية الكثير.

إن كل غلطة من هذه الغلطات الفادحة متجذرة في غلطة سبقتها. فأوباما رغب في إبطال آثار حروب بوش الاختيارية. ويريد ترامب محو كل ما فعله أوباما . أما النتيجة فهي أن أمريكا لم تعد تعلم ما هو الدور الذي عليها أن تلعبه. فهي لا تؤيد أو تعارض نشر المزيد من الديمقراطية في الشرق الأوسط . إن ترامب هو التجسيد المثالي لزهد بلده ( في الانشغال بالشرق الأوسط.) لذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئا التفات لاعبي المنطقة (بما في ذلك إسرائيل) إلى جهة أخرى لشغل الفراغ. لقد أنفق رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتا متعاظما في موسكو في السنوات القليلة الماضية. وعلى الرغم من أنه لا يمكن لوم ترامب على إرث (الانصراف عن المنطقة) إلا أنه جعله أكثر سوءا.

لقد دافع عن ثلاث سياسات شرق أوسطية محددة أثناء حملته الانتخابية. أولى هذه السياسات إيجاد حل لمشكلة الفلسطينية الإسرائيلية يرتكز على غرور كتاب فن الصفقات (من تأليف ترامب) بدلا عن فهم الاحتمالات الممكنة للحل. فهو يعتقد أن بمقدوره النجاح حيث فشل الآخرون. أما السياسة الثانية فهي الانسحاب من اتفاق أوباما النووي مع إيران الذي وصفه بأنه «أسوأ اتفاق على الإطلاق.» ومن المرجح أن يحدث ذلك الانسحاب في الشهر القادم. بل إن جون بولتون مستشار ترامب الجديد للأمن القومي أشد عداء للاتفاق من رئيسه. والسياسة الثالثة كانت «القضاء على داعش» ثم الخروج من سوريا. ترتكز أهداف ترامب هذه كلها على الكسب السياسي في الداخل. وهي تتجاهل أثر كل هدف منها على الهدف الآخر. إنه ليس هنري كيسنجر (ولد في 27 مايو 1923. منظر سياسي ودبلوماسي ومستشار جيوسياسي أمريكي شهير. عمل وزيرا للخارجية ومستشارا للأمن القومي في عهدي نيكسون وفورد- المترجم.) فسحب القوات الأمريكية المتبقية سيتيح لإيران هيمنة بلا قيود في سوريا وما وراءها. لكن هذا يصطدم مباشرة بهدف ترامب في مواجهة إيران. كما سينتج عنه أيضا المزيد من الضربات الإسرائيلية للقوى التي تدعمها إيران في سوريا مما سيزيد من التوتر في غزة والضفة الغربية. وذلك بدوره سيقلِّص من احتمالات استئناف عملية سلام حل الدولتين المتلاشية سلفا. وبالمثل سيعجِّل الإقرار بانتصار الأسد بإحياء داعش أو جماعة متطرفة أخرى مثل القاعدة وسط السنّيين المحرومين من المشاركة السياسية. فقد كانت الوحشية هي التي حرضت على ظهورها في المقام الأول. هذه نتائج غير مقصودة (لكن يمكن توقعها) لتصرفات ترامب.

وسيشعر بها الناس فيما وراء الشرق الأوسط. فلماذا (مثلا) يعقد كيم جونج أون اتفاقا نوويا مع ترامب في حين يخطط هذا الأخير لتفكيك الاتفاق النووي الإيراني؟ وإلى من يتجه سُنِّيُّو سوريا اليائسون حين تبسط دمشق سيطرتها مجددا؟ وإلى أي حد يسهل وقتها لداعش اجتذاب مجندين جدد؟ وبأي سرعة يمكن لروسيا ترجمة وجودها المتنامي في الشرق الأوسط إلى نفوذ أكبر يمتد فيما وراء المنطقة؟ مثل هذه الأسئلة لا تظهر في حسابات ترامب. فمن يُقيِّمُون له سياساته أناس محليون ( ذوو مشاغل داخل الولايات المتحدة.) لقد فقد الأمريكيون رغبتهم في عمل أي شيء ينطوي على مخاطر في الشرق الأوسط. وكان هذا صحيحا قبل فترة طويلة من تولي ترامب منصبه الرئاسي.