aseem1
aseem1
أعمدة

السماء الثامنة: عن المهلب وإسقاطات التاريخ

08 مايو 2018
08 مايو 2018

عـاصـم الشـيدي -

[email protected] -

يرد في وصية المهلب بن أبي صفرة لأبنائه عندما أدركه الأجل قوله: «إياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم» وهذه الوصية جديرة بالتأمل خاصة أنها جاءت من رجل في حجم المهلب خَبِر الدنيا وخبر الرجال في مرحلة من أكثر مراحل التاريخ العربي قلقا.

وعندما قرأت هذه العبارة في كتاب ابن خلكان «وفيات الأعيان» شعرت وكأن فيها إسقاطا تاريخا للمرحلة التي نعيشها اليوم والتي يستعاد فيها المهلب كما كان يحضر في البصرة في القرن الأول الهجري يملأ الدنيا ويشغل الناس.. حتى أن كل كتب التاريخ والأدب والرجال تطلق على البصرة اسم «بصرة المهلب» ومن بعده آل المهلب. لكن بعض من استعاده اليوم يحاول انتزاعه من عمانيته التي أحاطت به ذكرا وحضورا وقوة رجال الأزد، كل ذلك دون إدراك حقيقي للتاريخ ودون قراءة واعية له، منطلقين من اختلاف في مصادر التاريخ، وكتب النسّابة حول مكان مولد والده أبو صفرة فابن حجر في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة يورد أن أبا صفرة كان صحابيا من دبا عُمان والتقى بالرسول وبايعه، والرسول أطلق عليه هذا اللقب بعد أن سأله عن اسمه وقال: أنا قاطع بن سارق بن ظالم فقال له الرسول أنت أبو صفرة، دع عنك سارقا وظالما، رغم أن ابن حجر يعترف في كتابه بضعف الرواية، وأغلب الكتب التي تورد هذه الرواية تنقل عن الواقدي ورواية الواقدي يخطئها ابن قتيبة في كتابه المعارف. وما يدعم ضعف الرواية السابقة ما يذكره ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان من أن أبا صفرة ورد على أبي بكر لتعّزية في وفاة الرسول الكريم في وفد من قوم عُمان بصحبة عمرو بن العاص، وهي الرواية التي وردت أيضا في كتاب الأغاني. فيما يجمع النسّابة العمانيون على أن أبا صفرة من مواليد مدينة أدم في داخلية عُمان كما يذكر سيف بن حمود البطاشي. رغم أن هذا الخلاف لا قيمة حقيقية له في سياق الحديث عن عُمانية المهلب وآله فدبا منطقة عمانية طوال التاريخ، وهي سوق من أسواق العرب. يقول صاحب معجم البلدان ياقوت الحموي في الجزء الخامس من كتابه تحت اسم دبا «سوق من أسواق العرب بعُمان»، وينقل الحموي عن الأصمعي قوله: «بعُمان مدينة قديمة مشهورة لها ذكر في أيام العرب وأخبارها وأشعارها وكانت قديما قصبة عُمان».

ودبا ما زالت رغم حركة التاريخ ولاية من ولايات عُمان وإن كانت بعض أجزائها التاريخية صارت اليوم ضمن حدود دولة الإمارات.

ولا يرد المهلب في كتب التاريخ تقريبا إلا مرتبطا ومقترنا بعُمان وبأزد عمان الذين شاركوه حروبه خاصة حربه ضد الأزارقة وموقعته معهم في الأهواز بشكل خاصة كما يرويها الطبري حينما أشاع الأزارقة أن المهلب قد قتل فصعد المهلب وأخذ ينادي شباب الأزد وفتية اليحمد «أعيرونا جماجمكم ساعة من النهار» فثاب عليه جماعة من قومه من أهل عمان يسميهم الطبري «سرية عمان» وقلبوا معادلة المعركة، ووقائع المهلب مع الأزارقة أوردها المبرد في كتابه «الكامل» بشكل مفصل لم أراد أن يستزيد ويقرأ عن هذا القائد العظيم.

وأيّا ما يكون ميلاد المهلب بن أبي صفرة الذي كان يسميه عبدالله بن الزبير «سيد أهل العراق» فإن ذلك لا ينفي عُمانيته وفق تقسيمات حدودية حديثة. فلا يمكن وفق منطق التاريخ ووفق ما تصالح عليه المؤرخون أن يقال اليوم أن شاعرا مثل عمرو بن أبي ربيعة مثلا شاعرا سعوديا لأنه كان يعيش في الحجاز والحجاز اليوم صارت ضمن كيان سياسي اسمه «السعودية»، وفي الحقيقة لا يقول السعوديون ذلك لمعرفتهم بحقيقة التاريخ وأنه شاعر أموي؛ لأنه عاش في الدولة الأموية. ولا يقول السوريون أن شاعرا مثل المتنبي سوري بل لا يقولون أنه حلبي حتى رغم مولده في حلب فهو شاعر عباسي؛ لأنه عاش في الدولة العباسية. ولا يصنف شعراء أو علماء وفلاسفة الإغريق أو اليونان وفق التقسيم الحديث للدول، بل يقال شاعر يوناني أو إغريقي. ووفق هذا المقياس الذي تعارف عليه كُتّاب التاريخ علينا أن نقيس بقية التفاصيل الأخرى، اللهم إلا أن يكون نفس الكيان السياسي الذي كان قبل 2000 سنة وأكثر ما زال مستمرا حتى اليوم كما هو الحال مثلا مع عُمان، أو مع الهند.

والتاريخ منقوش في كتب التاريخ وهي موجودة ومتاحة للقراءة والبحث وما أكثر ما كتب المؤرخون في كتبهم عن المهلب وآل المهلب، وما أكثر الأشعار مدحا وهجاء في المهلب وآل المهلب وكلها موجودة ومقترنة بعُمانيته وبقومه الأزد الذين شاركوا في صناعة مجده التاريخي ومجده في الفتوحات الإسلامية. ومن الأبيات الجميلة التي رثت المهلب ما قاله ابن عبد القيس في قصيدته التي أورد جزءا كبيرا منها صاحب وفيات الأعيان قوله:

رجفـت لمصـرعه البلاد وأصـبحت

                               منا بفـضــل فـواضـــل ومـدائح

وقول نهار بن توسعة نقلا عن وفيات الأعيان أيضا:

ألا ذهـــب الغــزو المقــرب للغـنـى

                                                 ومات الندى والجود بعد المهلب

ولعل الندوة الدولية التي تقام اليوم احتفاء بالمهلب تفتح آفاقا لدراسة تاريخه وتاريخ المهالبة وأدوارهم التاريخية في الفتوح الإسلامية وتلفت النظر على ضرورة خدمة التاريخ بالدراسة والبحث التحليلي. أما مسألة عُمانيته وعمانية والده فالتشكيك فيها نكتة كبيرة من النكت التي نسمعها اليوم كثيرا في عصر يبدو أن بعضه يعيش بدون مرجعية تاريخية يقرأ فيها مستقبله على اعتبار أن المستقبل لا يمكن أن يقرأ بعيدا عن التاريخ.