الملف السياسي

ثلاثة دروس من أجل تطوير مسيرة ناجحة

07 مايو 2018
07 مايو 2018

د.صلاح أبو نار -

المزايا التفاضلية لرهان المشاريع الصغيرة والمتوسطة، كاستراتيجية أساسية لتوظيف القوى العاملة العمانية. يتميز هذا الرهان بكثافة الأيدي العاملة، وإمكانية إقامته برؤوس أموال صغيرة، وتنوع مجالاته وقدرته على الانتشار القطاعي والجغرافي، ودخوله في علاقة تكاملية مع المشاريع الكبرى.

في أواخر نوفمبر2017 قرر مجلس الوزراء في استجابة لتعليمات صاحب الجلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه- الشروع في توفير25000 فرصة عمل داخل مؤسسات القطاع الخاص. وفيما بين الثالث من ديسمبر والخامس من مارس 2018، نجحت الجهات المختصة في تعيين 14883 باحثا عن العمل، ثم تواصلت الجهود حتى تم تحقيق الهدف، وتجاوز العدد المستهدف ، حيث تم تعيين 26103 باحثين عن عمل حتى 30 أبريل الماضي. ويعتبر هذا إنجازا قياسيا، لو وضعنا في اعتبارنا النتائج السلبية لانهيار أسعار النفط ، والتراجع المخطط الذي ترجع بداياته الى ما قبل هذا الانهيار، لدور الدولة كمشغل عام لصالح سياسات التنويع الاقتصادي.

وسنجد لهذا الإنجاز سوابق قريبة زمنيا. ففي عام 2011 صدرت الأوامر السامية بتوفير 50 ألف وظيفة للباحثين الشباب عن العمل، ذهب أغلبها الى حملة المؤهلات الدنيا. وخلال عام 2016 وفر القطاع الخاص بمفرده 53 ألف وظيفة للعمانيين. وتجسد تلك السوابق وغيرها اتجاها صاعدا وطويل الأمد للقوى العاملة العمانية في القطاع الخاص. ووفقا للإحصاءات الرسمية، ارتفع عددهم من 137.423 عام 2000 الى 337.025 عام 2011. وجاء هذا التطور الإيجابي حصيلة للتطورات الكلية لسياقين: سياق التقدم الاقتصادي المطرد للقطاع الخاص،أي نمو مساهمته في مختلف القطاعات الإنتاجية والناتج القومي الإجمالي، وبالتالي اتساع قدرته على توظيف القوى العاملة. وسياق انكماش دور الدولة كمالك للمشاريع ومستخدم للقوى العاملة، دون وصول هذا الانكماش الى حد الاختفاء، بالتوازي مع تقدم دورها كمنظم ومخطط وممول استراتيجي للاقتصاد وتطوراته. وانطلاقا من دورها الجديد هذا شرعت الدولة في طرح سياسات لتشغيل القوى العاملة على القطاع الخاص، عبر صياغة مخططة للمعايير الكمية والزمنية الحاكمة للتشغيل، وتوفير البنى والمؤسسات العلمية والتدريبية والتمويلية المساندة، وعرض الحوافز والضمانات الدافعة للتشغيل والمؤمنة لنجاحه.

غير أن هذا التقدم المؤكد يجب وضعه في سياق مقارن، حتى يمكننا إدراك حجم التحديات التي يواجهها المخطط العماني . إذا كانت مساهمة القوى العاملة العمانية قد شهدت ارتفاعات مطردة، فإن مساهمة القوى العاملة الوافدة في القطاع الخاص، بفعل سنوات صعود الريع النفطي وتقدم سياسات التنمية الإنسانية والرفاه الاجتماعي، شهدت نفس الظاهرة وبمعدلات اكبر. فيما بين عامي 2000 و2011 ارتفع عدد العمال الوافدين، من 378.094 الى 1.075.141 عاملا. وتخبرنا إحصائيات عام 2014، ان نسبه القوى العاملة الوطنية في القطاع الخاص كانت 10.6%،مقابل 89.4% للوافدة. بينما وصلت نسبتها في القطاع الحكومي الى 85.9% مقابل 14.1% للوافدة.

ولا تشكل القوى العاملة الوافدة في حد ذاتها ظاهرة اقتصادية غريبة. فنحن لا نجدها فقط في سياق اقتصادات الريع النفطي، التي اطلقت برامجها التنموية الطموحة مع طفرة اسعار النفط في السبعينيات .بل نجدها ايضا وبقوة في الاقتصاد الأمريكي في ظاهرة الهجرة غير الشرعية، والتي نجد مؤشرا على ضخامة حجمها في مشروع بناء السور العازل عن المكسيك، فهذا السور يستهدف اساسا منع تهريب البشر، الذين سيتحولون الى قوى عاملة وافدة غير شرعية يطلبها السوق الداخلي ويتستر عليها. كما سنجدها بشكل اقوى في اقتصاديات دولة الرفاه الاوروبية في الستينات وما بعدها، التي اجتذبت ملايين الأيدي العاملة من تركيا وإفريقيا، وبدرجة اقل بعض اقتصادات النمور الآسيوية. وتفسير تلك الظاهرة بسيط : في مرحلة معينة تحقق حركة النمو الاقتصادي معدلا أعلى من قدرة القوى العاملة الوطنية على تلبية احتياجاته. وتتواصل الظاهرة حاملة معها تناقصاتها، وهكذا ستأتي لحظة معينة تصبح فيها القوى العاملة الوطنية قادرة على تولي وظائف وأعمال القوى العاملة الوافدة، بل في اشد الاحتياج اليها. بينما الوافدة لا تحافظ فقط على مواقعها، بل تحافظ عليها في إطار آليات تعيد إنتاجها، وتمدها بتدفقات خارجية جديدة.

وتقودنا الملاحظة الأخيرة الى قلب موضوعنا. بينما تزداد اعداد الشباب العماني الباحث عن عمل، تزدحم المؤسسات الاقتصادية العمانية بعشرات الآلاف من القوى العاملة الوافدة. وعند نقطة معينة وفي تخصصات معينة، ليست بالضرورة تخصصات رفيعة المستوى، سنجد عرض العمل العماني اقل من طلب العمل، وهنا يصبح الاستعانة بالقوى العاملة الوافدة ضروريا. ولكن في تخصصات اخرى بعضها رفيع المستوى لن نعثر على تلك الفجوة بأي شكل ولا بأي درجة، وهنا يصبح الأمر مشكلة في حاجة الى تفسير وحل.

وفيما نعتقد تمنحنا خبرة التوظيف الأخيرة والمناقشات التي دارت حولها، منظورا إليها في إطار الخبرات السابقة المماثلة، عدة مؤشرات ودروس تساعدنا على فهم عوامل المشكلة وسبل تخطيها ، دفعا لمسيرة التوظيف العماني في القطاع الخاص.

يتعلق الدرس الاول بنظام التوظيف المتبع ودوره في تخطي مشاكل التوظيف.في مارس 2017 نشر موقع البنك الدولي تقريرا ميدانيا مختصرا عن التوظيف في السلطنة. وما يهمنا فيه ان العناصر المستفيدة من برامج المساعدات الاجتماعية في منطقة الباطنة، لم يحاول منها الاستفادة من برامج التوظيف سوى عناصر محدودة جدا. ولم يطرح التقرير تفسيرا للظاهرة لكنه أشار لدراسة لوزارة التنمية الاجتماعية، اوردت ان 89% من المستفيدين من برامجها لايعرفون بوجود برامج للتوظيف، و83% لايعرفون ان لدى الوزارة مستشارين لمساعدتهم على التوظف. ويمنحنا التحليل السابق مؤشرا واضحا، بأن مجرد وجود برامج للتوظيف لا يكفي في كل الاحوال لتحقيق هدفها الامثل، وان وجود هذه البرامج مقرونا بنظام فعال ومتاح للتوظيف أمر غاية في الأهمية. وهذا ما سعت وزارة القوى العاملة لتحقيقه عبر اطلاقها وتطبيقها ثلاثة نظم: نظام الترشيح الالكتروني للوظائف، ونظام التسجيل الالكتروني للوظائف، وبرنامج حماية الاجور. وما يهمنا هنا هو النظام الاول .عبر هذا النظام يمكن للباحث التعرف على كل الوظائف المتاحة، في كل القطاعات والمناطق، ويوازنها مع احتياجاته ومؤهلاته وخبراته، ويختار الأمثل منها ويقدم كل أوراقه ولأكثر من وظيفة ودون مغادرة مكانه. وفي ظل هذا النظام يختفي دور المعرفة الشخصية المحدودة، وتتوفر خيارات واسعة، وتتعاظم عقلانية الاختيار، ويتراجع العنصر الاضطراري في قبول الوظيفة الناتج عن ضيق المعرفة، وتقل التكلفة الزمنية والمادية للبحث عن العمل.

ويتعلق الدرس الثاني بالمقومات والآليات العملية لعملية التوظيف. يتصل الأول اساسا بالنظام الواسع والامثل لعرض فرص العمل والاختيار بينها اختيارا عقلانيا حرا، اما الثاني فيتعلق اساسا بآليات التطبيق العملي للخيارات المحددة. وسنجد عناصر هذا الدرس في المناقشات التي صاحبت خطوات تنفيذ برنامح التوظيف، والتي دار الكثير منها عبر جلسات برنامج «نعمل معا». اول هذه العناصر ضرورة الايمان العميق والصادق بأهلية العناصر العمانية لتولي كل الوظائف. في بذرتها الأولى تتشكل هذه القناعة انطلاقا من الايمان بقدرات المواطن العماني، المستمد من المعرفة الواقعية به وتاريخه الحضاري الطويل الثري. ولكن هذا الايمان على صحته لن يصمد بمفرده في الاختبارات العملية المحددة والمتجددة طويلا، ويجب الشروع فورا في تحويله الى سياسات ذكية تحسن اختيار العناصر والمفاضلة بينها وتميز أوجه النقص فيها، لتدمجها في سياقات تأهيلية وتدريبية متكاملة. وثاني تلك العناصر بناء منظومة جامعة بين مؤسسات التعليم العالي والشركات، من اجل بناء قاعدة صلبة للتوافق بين منتجات الأول واحتياجات الثاني. منظومة في بعدها الأول يقوم كل طرف بمسح دوري ومباشر لواقع الآخر واحتياجاته وآفاق تطوره، وفي بعدها الثاني تمارس التغذية المتبادلة عبر الشراكة والتكيف.

وثالث تلك العناصر هو تخطي قياس ملاءمة الباحث عن العمل للوظيفة من خلال التخصص مهما كان ضيقا ومحددا، صوب قياسها عبر القدرات العملية الخاصة والمحددة التي تحتاجها الشركات لادارة اعمالها.

ويتصل الدرس الثالث بالمزايا التفاضلية لرهان المشاريع الصغيرة والمتوسطة، كاستراتيجية اساسية لتوظيف القوى العاملة العمانية. يتميز هذا الرهان بكثافة الأيدي العاملة، وإمكانية إقامته برؤوس أموال صغيرة، وتنوع مجالاته وقدرته على الانتشار القطاعي والجغرافي، ودخوله في علاقة تكاملية مع المشاريع الكبرى. وعبر قطاعاته المتنوعة متفاوتة التطور، في إمكانه تشغيل تخصصات القوى العاملة العمانية التقنية الماهرة في المنشآت الصناعية المتوسطة، وأيضا متوسطة ومنخفضة المهارة في مجالي التجارة الصغيرة والخدمات، واحتلال أنشطة مهنية واسعة النشاط تشغلها الآن قوى عاملة وافدة غزيرة العدد.