أفكار وآراء

سلام الشرق الأوسط في انتظار تغيير المعادلة

05 مايو 2018
05 مايو 2018

د. عبد العاطى محمد -

بعد أن غادر جون كيري وزير الخارجية الأمريكية السابق منصبه بقليل حمّل إسرائيل المسؤولية عن فشل جهوده لاستئناف المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وقال إذا لم يكن لديك قادة يريدون السلام، وإذا لم تتغير المعادلة سأستغرب إذا لم نر خلال السنوات العشر المقبلة بعض القادة الفلسطينيين الشباب الذين سيخرجون لنا بالقول: لقد حاولنا اللاعنف على مدى 30 عاما ماضية ولم يحصل لنا شيء.

كانت للرجل الشجاعة أن يسجل هذه الإدانة الصريحة لحكومة نتانياهو اليمينية برغم كل ما هو معروف سلفا عن التأييد والدعم الأمريكي لإسرائيل. وكان من المفترض وفقا لتقاليد الدبلوماسية الأمريكية أن تهتم إدارة دونالد ترامب بما تركه لها كيري عن قضية المفاوضات برمتها من حيث الفرص والتحديات والحلول التي تؤدي لانفراج الأزمة. ولكن وعلى غير المعتاد لم تلتفت هذه الإدارة لذلك، واختارت الطريق المعاكس تماما، وهو الانحياز المطلق للموقف الإسرائيلي إلى الدرجة التي لم تتوقعها إسرائيل نفسها. فقد وضعت حل الدولتين جانبا ، وروجت لما اسمته صفقة القرن ، التي اتضح أنها تجسيد لكل ما تريده إسرائيل، حيث لا دولة فلسطينية بل كيان بحدود مؤقتة ليس له أية سيادة ، ولا حديث عن القدس ، ولا عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين. كما قررت أن تنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وفي الذكرى السبعين لقيام الدولة العبرية، إمعانا في إرضائها، حتى لو كان القرار مخالفا للقرارات الدولية ذات الشأن ولمواقف الإدارات الأمريكية السابقة. وعندما استشعرت إدارة ترامب الاستياء الدولي من إقصائها لقضية القدس، طرحت تعديلا في خطة السلام التي تريدها يقضي بأن يتم تأجيل النظر في مستقبل القدس إلى مرحلة لاحقة على أن تستأنف المفاوضات الآن حول بقية قضايا الحل النهائي. وجاء التعديل بناء على طلب بعض الدول الأوروبية لكي تكون الخطة مقبولة من كل الأطراف. ولكن الرئيس الفلسطيني محمود عباس رفض التعديل أو استثناء القدس من أية مفاوضات وجدد رفضه للخطة الأمريكية بمجملها لأنها ترمي إلى استخدام الفلسطينيين جسرا للوصول إلى الدول العربية وليس للوصول إلى حل الدولتين. وبما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لن ينضم للخطة إذا عدلت، وإذا ما بقيت الخطة على حالها فلن يقبلها عباس، رأت الإدارة الأمريكية تأجيل طرح الخطة إدراكا منها لصعوبة الاتفاق على القدس. وبما أن إدارة ترامب قد عودتنا على الانتقال المفاجئ من موقف إلى آخر، فإنه ليس من المستبعد أن تعود نغمة التعديلات مرة أخرى استهلاكا للوقت وزيادة الضغوط على الطرف الفلسطيني، ليبقى جوهر الخطة كما هو: إقامة كيان تابع للدولة الإسرائيلية ووفق شروط محددة، لا إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية ذات سيادة وقادرة على الحياة.

العودة إلى ما قاله كيري بخصوص عدم وجود قادة يريدون السلام وتغيير المعادلة كمعوقات للتوصل إلى خطة جادة لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني (وفقا لتعبيراته)، تفسر إلى حد كبير أسباب الفشل المتواصل في مسيرة السلام بالشرق الأوسط، وتحذيراته بخصوص المستقبل تظل حقيقية، حيث البديل هو موجة جديدة أوسع نطاقا من العنف المتبادل، والاشتباكات بين الشباب الفلسطيني والقوات الإسرائيلية منذ بداية إحياء ذكرى يوم الأرض مؤشر قوى على ذلك. ولكن غاب عن كيري الحديث عن عوامل أخرى هي بنفس أهمية عاملي القيادات وتغيير المعادلة وعلى رأسها الرؤية المطروحة للحل والتحولات المفاجئة والدراماتيكية الجارية في أوضاع الشرق الأوسط، خصوصا فيما يتعلق بالوضع في سوريا أو المواجهة بين إيران والإدارة الأمريكية الجديدة.

الفوارق شاسعة بين خريطة السلام التي قدمتها إدارة جورج بوش الابن في 30 أبريل 2003، وبين خطة السلام التي تروج لها إدارة ترامب دون أن تفصح عنها رسميا ولكنها وصلت بالفعل إلى الأطراف المعنية. الخطة القديمة وضعتها اللجنة الرباعية التي ضمت الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتمت صياغتها بعناية فائقة ترضى كل الأطراف، بتحديد الأهداف والالتزامات المتبادلة والرعاية الدولية والتحقق على مراحل محددة زمنيا ومرتكزة على الأداء من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

ووفقا للنص «تقوم الخطة على تحقيق الحل القائم على أساس دولتين للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي ولن يتم تحقيق ذلك إلا من خلال إنهاء العنف والإرهاب، وعندما يصبح لدى الشعب الفلسطيني قيادة تتصرف بحسم ضد «الإرهاب» وراغبة في وقادرة على بناء ديمقراطية فاعلة ترتكز على التسامح والحرية، ومن خلال استعداد إسرائيل للقيام بما هو ضروري لإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، وقبول الطرفين بشكل واضح لا لبس فيه هدف تسوية تفاوضية على النحو الذي شملته الخطة وكان على ثلاث مراحل. الأولى إنهاء الإرهاب والعنف، وتطبيع الحياة الفلسطينية، وبناء المؤسسات الفلسطينية من 30 أبريل إلى مايو 2003.

والثانية تنصب على خيار إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود مؤقتة وخاصيات السيادة على أساس الدستور الجديد كمحطة متوسطة نحو تسوية دائمة للوضع القانوني. وتعقد الرباعية مؤتمرا دوليا فورا في أعقاب انتخابات فلسطينية ناجحة لدعم التعافي الاقتصادي الفلسطيني وإطلاق عملية تؤدى إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود مؤقتة، وتفتح هذه المرحلة الطريق إلى سلام شامل بما في ذلك بين إسرائيل وسوريا وإسرائيل ولبنان، وتمتد هذه المرحلة من يونيو 2003 إلى ديسمبر 2003.

وأما المرحلة الثالثة فتختص باتفاق الوضع الدائم وإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وتمتد بين عامي 2004 و 2005، ويتضمن الاتفاق حلا متفقا عليه عادلا ومنصفا وواقعيا لقضية اللاجئين وحلا تفاوضيا لوضع القدس يأخذ بعين الاعتبار الاهتمامات السياسية والدينية للجانبين ويصون المصالح الدينية لليهود والمسيحيين والمسلمين على صعيد العالم، ويحقق رؤيا دولتين، إسرائيل ودولة ذات سيادة مستقلة، ديمقراطية وقابلة للحياة هي فلسطين تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمن، وضمن هذه المرحلة تقبل الدول العربية إقامة علاقات طبيعية كاملة مع إسرائيل وأمن لجميع دول المنطقة في إطار سلام عربي إسرائيلي شامل.

خريطة الطريق هذه لم يقدر لها النجاح كما هو معروف، ولكن القصد من المقارنة مع ما يسمى بصفقة القرن هو توضيح حجم التردي الذي حدث في الموقف الأمريكي بخصوص إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. خريطة الطريق تتحدث عن دولتين أحدهما فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة، وصفقة القرن تتحدث عن دولة واحدة إسرائيلية تشرف تماما على كيان من الحكم الذاتي للفلسطينيين. ضاعت الالتزامات الأمريكية بخصوص الدولتين، ولا حديث عن القدس فهي إسرائيلية كلية وعلى الفلسطينيين أن يبحثوا لأنفسهم عن قدس جديدة من بين الأحياء القائمة وفقط يسمح بممر للفلسطينيين للوصول إلى البلدة القديمة حيث المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، ولا حديث بالمطلق عن السيادة (كيان يضم غزة مع نصف الضفة تقريبا يخضع للسيادة الإسرائيلية الكاملة). لقد شاركت الولايات المتحدة بنفسها مع بقية الرباعية الدولية في وضع خريطة الطريق السابقة، وتولت الوساطة في تنفيذها، وأما في صفقة القرن الآن فإنها تطرح تصورا منفردا، والغريب أنه متناقض تماما مع ما جاء في خريطة الطريق مما أخرجها بالفعل من كونها وسيطا نزيها في عملية السلام.

كلام كيري عن دور القيادات مهم بالتأكيد، فعلى مدى 15 عاما مضت على خريطة الطريق لم تأت حكومة إسرائيلية مؤمنة فعلا بالسلام والشواهد على ذلك كثيرة ليس فقط من حيث المراوغات والتهرب من تفعيل القواعد التي قدمتها الخريطة، وإنما من واقع الحروب العدائية التي شنتها إسرائيل على غزة والتشبث بمشروعات الاستيطان التي أكلت نصف الضفة تقريبا، ويقابل ذلك ضعف متواصل من القيادات الأمريكية في الضغط على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إلى أن جاءت إدارة أمريكية شديدة السخاء مع إسرائيل. وعلى الجانب الفلسطيني تكفلت الخلافات الداخلية خصوصا بين فتح وحماس بتقديم الدلائل لمن وضعوا خريطة الطريق بأن مقومات الدولة الفلسطينية على صعيد المؤسسات غائبة (استمرار الفشل في المصالحة الوطنية مؤشر على ذلك)، ومن ثم تراجع اهتمام الرباعية برعاية عملية السلام. وقد أشار كيري إلى عامل مهم أخر هو النفوذ القوي الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون على صانع القرار الإسرائيلي حتى لو كان من اليمين، حيث قال كيري إن المستوطنين يرفضون كلية حل الدولتين ويريدون الدولة الواحدة. وليس خافيا أن كل الحكومات الإسرائيلية منذ ذلك الوقت تعمل على كسب ود المستوطنين، ولم تنجح إدارتي أوباما في وقف الاستيطان.

وربما كانت إشارة كيري للتأثير المدمر للمستوطنين على جهود بلاده لإحلال السلام، هي واحدة من العناصر التي تدخل في إطار تغيير المعادلة لتصبح أساسا لإقامة سلام عادل ودائم. لقد تغير الوضع على الأرض لصالح ابتلاع الضفة الغربية مما يعتبر خصما من عوامل القوة عند الطرف الفلسطيني.

يقابل ذلك تقصير عربي واضح فيما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية، حيث انصرف الاهتمام إلى قضايا أخرى تتعلق بالوهن الداخلي أو بالصراع على النفوذ أو الانخراط في أزمات إقليمية عديدة، وليس الموقف الدولي أفضل حيث الخلافات الدولية غير خافية على أي مراقب لأوضاع المنطقة، والقصد هو أنه لم يحدث تغيير مؤثر في المعادلة لصالح الطرف الفلسطيني، بينما حدث العكس بالنسبة للطرف الإسرائيلي، وكلما اتسع مجال الأزمات الإقليمية وزادت حدة المواجهات فيها، كلما تضاءلت الفرص التي تدعم المعادلة التي تفترضها عملية تحقيق سلام دائم وعادل.